ينقسم المعايشُون لقضية الخلاف الحاصلة حالياً بين علماء، ومثقفي الأمة إلى عدة أقسام منهم من يرى الابتعاد عن الجميع حتى يتفقوا، كما يؤثر البعض التهوين من شأن الخلاف أياً كان نوعه ما دام المختلفون تحت شعار واحد عام، ويرى آخرون الاكتفاء بما اتفق عليه........
...وأن يعذر المخالفون بعضهم البعض فيما اختلفوا عليه، ولعل كل هذه الآراء قد جانبت الصواب حيث إن الخلاف إذا لم يعالج بين أبناء الأمة الواحدة سيزداد حدة وستحدث معارك كلامية بين الاتجاهات المختلفة مما يتيح الفرصة لأعداء الأمة لاستغلال هذا التطاحن لإضعاف الجميع، ومعلوم أن الخلاف أياً كان على نوعين:
النوع الأول: اختلاف التنوع: وهو ما لا يكون فيه أحد الأقوال مناقضاً للأقوال الأخرى، بل كل الأقوال صحيحة، وهذا النوع هو الشائع لدينا، وهو الاختلاف السائغ وأسباب هذا الاختلاف ترجع إلى عدة أمور منها:
1- عدم وجود الدليل القاطع على ما تم الاختلاف عليه مع وجود دليل صحيح لكل رأي.
2- تفاوت أفهام المختلفين فما يدركه طرف قد لا يدركه الآخر، أو قد يغيب عنه.
النوع الثاني: اختلاف التضاد: وهو أن يكون كل رأي من آراء المختلفين يضاد الآخر ويحكم بخطئه أو بطلانه، وهو يكون في الشيء الواحد، إذ يقول البعض بحرمته والبعض الآخر بحله، وقد يكفِّرُ بعضهم بعضاً، ومن أسباب اختلاف التضاد:
1- التنافس في سبيل الوصول إلى منصب أو غاية.
2- الجهل والنقص في العلم.
3- التعصب المذموم لأسماء معينة وعدم الرجوع إلى الحق إذا ظهر لهذا المتعصب خطأ رأيه.
وبالعموم فقد نقل عن بعض السلف بأن الاختلاف رحمة، وذكروا أن في ذلك حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اختلاف أمتي رحمة) وقد قال بعض المحققين: إن هذا الحديث لا يصح سنداً ولا متناً، بل هو منكر ضعيف، وإنما هو كلام بعض السلف، وليس معنى ذلك أن الاختلاف نفسه رحمة بدليل أن الكتاب والسنّة يذمان الاختلاف. قال ابن مسعود: (والاختلاف شر). وبالنظر إلى واقع المسلمين نجد الساحة الإسلامية تموج بالاختلافات، بل المنازعات وتختلف وجهات النظر، فبينما يرى البعض أن التعدد الحاصل بين الاتجاهات والجماعات الإسلامية لا ضرر منه ولا حرج شرعاً من وجوده لأن كلا ًمنها حسب نظره على خير ويرى آخرون أن هذا التعدد والاختلاف خير محض، معللاً ذلك بأن أعداءهم سوف يتركونهم في شأنهم طالما أنهم مختلفون، ومتفرقون، وهذا الرأي خاطئ لأن الاجتماع وعدم الاختلاف مطلب شرعي ثابت في الكتاب والسنّة، وهناك من يقف من الخلاف موقف المتوسط بين الاتجاهات المتباينة بحجة أنه بذلك يكون قريباً منها جميعاً، ويرى أن الاختلافات الحاصلة بين فئات الأمة من جنس الاختلاف السائغ الذي لا يفسد للود قضية، وهذا القول قاصر في نظرته، لأن من المختلفين من ينتهج منهجاً مذموماً لا تصلح الوسطية تجاهه، على أنه يجب ألا يغيب عن البال أنه ليس من حق أي أحد أن ينتقي بالتشهي واحداً من الآراء دون اجتهاد وأن يكون هو أهلاً للاجتهاد، إذ إن ذلك طريق إلى الزندقة والانحلال وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز تتبع رخص العلماء، وقد ظهر ذلك جلياً فيما نراه ونقرؤه ونسمعه من بعض كتّابنا الذين يحاولون التلفيق بين المذاهب دون الرجوع للأدلة، بل بمجرد موافقة ما يظنونه مصلحة أو تيسيراً على الناس، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وفي ذلك يقول ابن قدامة في روضة الناظر 198 :(قال بعض أهل العلم: هذا المذهب أوله سفسطة وآخره زندقة، لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقاً، وبالآخرة يخيّر المجتهدون بين النقيضين عند تعارض الدليلين، ويختار من المذاهب أطيبها). ولعل القول الفصل في موقف المسلم من المختلفين هو أن من كان على منهج أهل السنّة والجماعة، سواء في قضايا العقيدة، أو العمل، أو الدعوة أو مناهج التغيير، فإنه هو الذي على الحق، وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين 3-300: (وقولهم إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل، أما الأول فإن كان القول يخالف سنّة أو جماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً، وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله، وأما العمل فإذا كان على خلاف سنّة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار).
وفي الختام فإن أهم آداب الخلاف اتخاذ منهج وسط بين في التعامل مع مسألة الخلاف والمخالفين يجمع فيه بين الثبات على الأصول والمبادئ، وإظهار المرونة التي تتطلبها الدعوة إلى الحق بالحسنى.
dr-a-shagha@hotmail.com