كنت قد تأقلمت لعدة سنوات على العمل على جهاز محمول لإحدى الماركات المتعارف عليها في السوق، وقد تعودت على ذلك الجهاز كما تعود الجهاز على عاداتي الفوضوية في العمل؛ كأن أتركه مفتوحا إلى الصباح، أو يسقط من فوق المكتب - بالخطأ طبعا- أو أحشوه من خلال حفظ بعض الإيميلات أو المواد الملوثة بالفيروسات دون أن يشتكي تلك الشكوى الجارحة، أو يتوقف عن العمل لدرجة أنني لا أذكر أنه قد خذلني ولو لمرة واحدة في العروض لأوراق العمل في المنتديات.....
....كما كانت تفعل بعض أجهزة الزملاء والزميلات، بل إنه كثيراً ما أسهم في مجاملتي بأن خدم بعضهم في الضائقات. غير أن البقاء لله فقد قرر ذلك الجهاز التقاعد، وبقدر ما حاولت إطالة أمد عطائه صار يفاجئني كل يوم بأعطال جديدة، معبرا عن احتجاجه -على ما يبدو- على إصراري العاطفي على التعلق بمفاتيحه وأيقونته وملفاته وصبري على تعثراته الأخيرة وإحراجي مع عملائي في صحيفة الجزيرة ومراكز البحوث في تأخير إرسال مشاركات أكون قد التزمت بها. ونظراً للعجز الفادح الذي يعانيه قطاع الصيانة الإلكترونية لدينا على مستوى المملكة في إصلاح أصغر إعطال للأجهزة، وإن كانت جديدة، ناهيك عن ترميم أجهزة معمرة، على الرغم عما يقال بأننا من أكبر أسواق استيراد الالكترونيات بأنواعها ومن مختلف مصادر توريدها، فقد اضطررت، كما كان يضطر الفارس القديم للتخلي عن فرس عزيز عقره غدر العمر، إلى الاستجابة لسلطة الزمن على الموجودات والشروع في البحث عن جهاز آخر. وما عرفت سر ارتباطي الوجداني العميق بمحمولي القديم إلا بعد عنائي اليوم لما يزيد على عدة أسابيع مع الجهاز الجديد لأكتشف حجم الإعاقة الجسدية والنفسية التي يتسبب لنا فيها التعود؛ بما فيها -أو على الأخص منها- تحول التعود إلى نوع من العادات البصرية أو عادات اللمس والشم والتذوق والتفكير والاستبصار. صحيح، أن محمولي الجديد أخف من الريشة وأستطيع أن أطويه بخفة تحت ذراعي كحالة حب وليد إلا أن هذه الميزة لم تكن تعوضني لا عاطفيا ولا عمليا عن الشعور بنوع من عماء الأصابع حين أضع في كل مرة أكون فيها منغمسة بالكتابة يدي على المفاتيح الخطأ بحسب نظام الأبجدية على اللوح السابق لتظهر على الشاشة كلمات مشوشة لا ألحظها إلا لاحقاً، أو عندما تطير الصفحة من أمامي لأدنى حركة عفوية آتيها، كأن أرد خصلة من شعري عن عيني أو أعطس أو كأن يقفز مؤشر الكتابة عن السطر الذي أكتب عليه ويطير إلى أعلى الصفحة لمجرد التمرد واستعراض فتوة الجهاز الجديد وما يتمتع به من تقنية عالية أمام أساري لعاداتي اليدوية التي -بشق الأنفس- ربيت نفسي عليها بصحبة الجهاز السابق بعد معاناة ممضّة من لوعة الفطام عن الكتابة بالورقة والقلم.
كان ذلك عندما أصر أستاذي برفيسور باندلي جليفانس حين كنت أعمل على أطروحة الدكتوراه بألاَّ يتسلّم مني أي فصل منها ما لم يكن مطبوعا على الكمبيوتر، بل إنه إمعانا في التحيز للتحولات التقنية السريعة، وكان ذلك في التسعينيات، كان لا يرضى بعقد الاختبارات إلا الكترونيا ولا يعطينا مفردات المنهج إلا عبر تلك الوسيلة، وقد رفض القبول بأية مراسلات ما لم تكن من خلال البريد الالكتروني، ورغم أنه بدا وقتها في عمر تجاوز الشباب بسنوات وجلل رأسه -كما يقال عادة- ثلج الشتاء.
لقد أعاد لي تعاملي مع محمول جديد يحمل مواصفات تقنية عالية، دقيقة ومعقدة، ذلك الشعور بالتحدي الذي جربته حين عملت لأسابيع متواصلة قبل أكثر من عام مع الزميلة المتميزة ختام الشريدة المختصة في الحاسب الآلي، وبمساعدة مضنية من الزملاء بوحدة الحاسب بجامعة الملك سعود، ومنهم ياسر البشير ومازن ... على إعداد وتصميم إنشاء موقع قسم الدراسات الاجتماعية ليكون في استقبال الطالبات والزوار مع مطلع الفصل الدراسي 28/ 29هـ كما رأت وقتها د. الجازي الشبيكي؛ حيث قدم ذلك الموقع كأول موقع الكتروني متكامل من مواقع جامعة الملك سعود لكليات الجامعة للدراسات الإنسانية في أقسام النساء والرجال معا. حقا، إن تجارب التحدي الذاتي والعام بعذوبتها وعذاباتها من التجارب التي تشعرنا بأننا أحياء وبأنا مهما كبرنا لازلنا نرفل في فورة الشباب. وهذا ما أشعر به الآن، وقد أنهيت كتابة هذه المقالة على المحمول الجديد بتقنيته الباهظة.
Fowziyah@maktoob.com