ترك خطاب الملك عبدالله بن عبدالعزيز في مجلس الشورى بعد ظهر يوم أمس كما هي خطاباته السابقة أعمق الأثر في نفوس مواطنيه وأمته، واطمأن الجميع على أننا بخير وأنه لا خوف علينا، ما دام أن قيادتنا بأيد أمينة، وما دام تفكيرها ومنطقها وإدارتها لمسؤولياتها الجسام تتم بهذه الشفافية والصدق، وما دامت أعمالها تنجز بهذه الكفاءة والمقدرة التي تحدث بها خادم الحرمين الشريفين، وبخاصة أن هذه القيادة تملك المبادرة وبهذه الصورة للتعامل مع المستجدات وعلى النحو الذي رأيناه وتحدث عنه خادم الحرمين الشريفين في افتتاحه للسنة الأولى من الدورة الخامسة لمجلس الشورى بعد ظهر يوم أمس.
***
كان عبدالله بن عبدالعزيز في خطابه أمس كمن يستلهم العبر من الماضي ويستشرف معالم المستقبل وهو يخاطب الأمة والشعب - أو هكذا قال - لينتصر في ضوء رؤيته وقراءته للواقع على كل التحديات التي واجهتنا وتواجهنا وهي كما قال كثيرة وكبيرة، ونظيف من جانبنا إلى ذلك بأنها تحديات صعبة وخطيرة، ولولا إخلاص القيادة وتفاني المواطنين الذين استشعروا بالخطر الذي داهمنا فتعاملوا معه بالجدية والحكمة والتعاون لما تمكنا من تجنب هذه الأخطار ومن أن نحتويها ونتجاوزها وننتصر عليها.
***
ولم يكن الملك عبدالله وهو يخاطب أعضاء مجلس الشورى غائباً عن تقدير حجم هذه التحديات أو مهادناً لها، وإلا لما حقق لوطنه ولمواطنيه كل هذا النجاح، حيث حافظ على الإنجازات والمكتسبات التي يتمتع بها المواطنون، مع استمراره بدعم برامج التنمية ضمن اهتمامه بمسيرتها وخطواتها وحرصه على أن تبلغ ذروتها من النجاح، ما لا نجده في دولة أخرى تتشابه معنا في الظروف والإمكانات والبعد التاريخي، وهو ما يسجل للرجل الكبير الذي يحبه الشعب ويرى فيه نموذجاً للقائد الفذ الذي لا يخلف وعداً يقطعه على نفسه ولا يتخلى عن مبدأ يرتضيه لنفسه، ضمن ما يسمى بالخيارات المتاحة التي تتبدل وتتغير وفقاً للظروف ما دام أنها لا تصل إلى قناعاته ولا تلبي مصالح شعبه.
***
والملك عبدالله الذي آمن ويؤمن دائماً بلغة الحوار، ويرى أنه مخرجنا وطريقنا لتجسيد طموحاتنا، هو الحوار ذاته الذي فتح أبوابه داخلياً وخارجياً بما لا سابق له في أي دولة من دول العالم، فجاء هذا النهج في إطار حرصه على نشر ثقافة التسامح والحوار بين الدول والشعوب والأديان، وتجنيب العالم من مغبة الحروب والصراعات التي حصيلتها المزيد من العداوات والبغضاء وقتل الأبرياء وتعريض الأمن والسلام العالميين للخطر، وهو الهم الذي شغل تفكير عبد الله بن عبد العزيز، ورأى فيه صورة قاتمة ينبغي إزالتها، وبناء علاقات من الأخوة تكون قادرة على ترسيخ القيم والمثل والأخلاق التي يدعو إليها ديننا الإسلامي.
***
ويمكن لنا أن نعد مبادرة الملك عبد الله بتوجهه إلى العالم بصيغته التي طرحها للحوار والتفاهم على النحو الذي تم في مؤتمرات حوار الحضارات والأديان، كما لو أنه مشروعه الحضاري الشخصي للخروج من الخلل الأخلاقي والسياسي الذي أوضحه وأبان تفاصيله ومراميه من جديد في خطابه التاريخي أمام أعضاء مجلس الشورى، فقد مكن العالم دولاً وشعوباً من أن ترى الضوء الذي اختفى من طريقها، وأن تتعرف على التحديات المستقبلية التي ستواجهها، وأن تتحمل مسؤولياتها أمام شعوبها في ظل هذا التصادم الثقافي والحضاري والديني الذي كانت نتائجه ما نراه الآن من خصومات وخلافات وفتن وحروب طاحنة، بينما المطلوب ترسيخ مبدأ التآخي بين الشعوب والدول كما ظل ينادي بذلك عبد الله بن عبد العزيز.
***
وكان من الطبيعي أن يكون الملك عبدالله بن عبدالعزيز ضمن قادة الدول الذين يعّول عليهم في معالجة الوضع الاقتصادي العالمي، بأمل وضع ترتيبات قادرة على الخروج به من أزمته الراهنة، بحكم أن المملكة واحدة من الدول المؤثرة في هذا الاقتصاد، والقادرة من خلال مشاركتها مع الدول الأخرى في تبني قرارات وإجراءات تعيد إلى الاقتصاد العالمي الثقة في قدرته على تجاوز هذه المرحلة الخطيرة والاتجاه به إلى ما يعزز قدرته على احتواء السلبيات التي واجهتها المؤسسات المالية الدولية، وهو ما شجع الملك في خطابه التاريخي لطرح رؤيته التاريخية للخروج من نفق الأزمة الاقتصادية العالمية، مؤكداً أنه لا يمكن الاعتماد على آلية السوق بمفهومها التقليدي ليتحقق الاستقرار المالي العالمي، وبالتالي فهو يدعو إلى تطوير مؤسسات وأنظمة الرقابة على القطاعات المالية العالمية، بعد أن تبين له شخصياً الخلل الملحوظ في الرقابة على القطاعات المالية في المراكز المالية العالمية، مرحباً بالمرحلة الجديدة من مراحل النظام الاقتصادي العالمي التي بدأت تتشكل بأمل أن تتسم بالضوابط الموضوعية التي تحقق الاستقرار المالي والأمن الاقتصادي والرفاه الاجتماعي لشعوب العالم، بعد أن تبين أن المرحلة التي انتهت من مراحل النظام الاقتصادي والمالي العالمي كانت تحمل من العيوب والثغرات ما تأكد للمملكة ولغيرها من الدول بأنه لا يمكن الاعتماد على آلية السوق في مفهومها التقليدي لتحقيق الاستقرار العالمي، وهذا بعض ما جاء تفصيلاً في الخطاب التاريخي لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز.
***
على أن القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني بما في ذلك حقه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، كانت في خطابه حاضرة بتأكيده على أن حقوقه الوطنية لا تتحقق إلا من خلال وحدة الشعب الفلسطيني واستقلالية قراره الوطني، وهو ما ظل خادم الحرمين الشريفين يردده ويكرره وينادي به في كل المناسبات والمؤتمرات واللقاءات والمحافل التي اعتاد العالم أن ينتظر فيها سماع كلمة الفصل منه في هذه القضية الشائكة التي تصر إسرائيل على عدم إيجاد حل عادل لها بحرمانها شعب فلسطين من أبسط حقوقه في إقامة دولته الحرة المستقلة، ورفضها الاعتراف بكل المواثيق والقرارات الدولية اعتمادا على مساندة أمريكا ودعمها وموقفها غير العادل من الصراع العربي الإسرائيلي على امتداد عمر هذا الصراع.