مع كل ما قامت به الدولة السعودية من جهود متقدمة في دمج فئات المجتمع بادية وحاضرة وصهرهم في البنية الاجتماعية، إلاّ أن نزعة التباين النفسي بين الحاضرة والبادية لم يتم القضاء عليها بشكل كافٍ. ولا شك أن مأزق تعريف البدوي والبداوة، وعدم تحديد ذلك المصطلح بدقة له دور كبير في نشوء هذه المشكلة، فالكثير من أبناء الحاضرة ما زالوا ينظرون إلى ابن القبيلة على أنه بدوي حتى وإن ولد واستقر وتعلم في المدينة، مما ينتج عنه وجود فوارق وهمية مصطنعة مبنية على مفهوم سابق وحاضر مؤدلج قد تصل أحياناً إلى ممارسة فعلية أو كلامية.
ومن أجل فهم مصطلح البداوة فإنه ينبغي التذكير بأن البداوة ذات خصائص معينة يمكن إجمالها فيما يلي: (التنقل وعدم الاستقرار)، و(ممارسة الرعي والصيد)، و(ارتفاع نسبة الأمية بسبب البعد عن مراكز الإشعاع العلمي)، و(بروز العصبية القائمة على وحدة النسب (الانتماء القبلي)).
لقد ساعدت هذه الخصائص في السابق على انغلاق المجتمع البدوي على نفسه، وتمسكه بملامح هويته من خلال المحافظة على السلالة النَسَبية وعلى اللغة، وتوارث العادات والتقاليد والأعراف البدوية، مشكلاً بذلك إطاراً سلوكياً خاصاً بذلك المجتمع.
وإلى جانب تلك الخصائص، فقد كان هناك بعض المزايا الفطرية الجميلة التي يتمتع بها أبناء البادية الخلصاء كالنقاء والشيم الكريمة وسرعة البديهة ودقة الملاحظة والفصاحة والصدق والإيجاز في التعبير.
والحقيقة أن البادية بمواصفاتها وخصائصها المشار إليها أعلاه لم تعد موجودة بعد أن تحول أهل الوبر من حياة الصحراء والتنقل إلى حياة الاستقرار في المدن والقرى، وأخذوا بأسباب الحضارة، وانخرطوا في المدارس النظامية، ومارسوا مظاهر المدنية الحديثة من السكنى في البيوت الأسمنتية، والاعتماد على وسائل الحياة الحديثة من تكييف وتبريد واتصال ونقل...إلخ.
إلاَّ أن الملاحظ أن تسميتهم بالبادية ووصف المنتمين للقبيلة بالبدو نعوت لازمت أبناء هذه الشريحة من المجتمع حتى بعد أن تركوا حياة البداوة وتحولوا إلى حياة التحضر والاستقرار، وهذا المفهوم لا يخلو من المغالطة الظاهرة، لأنه يجعل الانتماء للقبيلة مرادفاً للبدو والبداوة، وتكمن خطورة هذا الخطأ في أن أبناء البادية قد يفسرونه على أنه مفهوم جائر قد يراد منه تحجيم دور المشاركة الواعية لهم في خدمة الوطن.
وفي هذا الصدد أتذكر قول الأستاذ محمد حسين زيدان - رحمه الله - وهو ابن الحجاز الحضري الذي ولد وترعرع في حضن أمه البدوية: (ليس هؤلاء البدو الذين ترون جماعة من الناس يحسبون في البدائيين، ليست البداوة لدينا تمثل البدائية، البدو لدينا عندهم حضارة يمثلون جزءاً من شعب، جزءاً من أمة، الأمة العربية، ذات الحضارة العريقة، فلنتفق أولاً على الحضارة، هل هي استعمال أم طبيعة؟ إن كانت هي الاستعمال فهذا البَهْرج من أدوات المدينة، أو هذا الإنتاج له، والتعامل معه صناعةً وبيعاً وشراءً واستهلاكاً فكلنا من حضري في المدينة، أو بدوي في الصحراء كلنا شعب بدوي، وإن كانت الحضارة استعداداً وطبيعةً وفكراً وثقافةً فليس هذا البدوي بالإنسان البدائي، وإنما هو إنسان متحضر لديه الاستعداد لأن يتعلم، لقد نجحوا في المدارس، وفي الجامعات بصورة رائعة...إلخ كلامه).
إن هذا المأزق الاصطلاحي قد يؤدي لا قدر الله إلى نوع من الخلل الاجتماعي الذي ربما يؤخر اندماج طرفي المجتمع وفق ما ترمي إليه الدولة أيدها الله ويطمح إليه أبناء الوطن المخلصون من الطرفين.