الرياض - خاص بـ(الحزيرة)
أكد فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن صالح الحميد عضو المحكمة العليا ورئيس محاكم منطقة تبوك سابقاً على ضرورة تضافر الجهود الدعوية والتربوية والاجتماعية في علاج مشكلة العنف الأسري، لأن ازدياد ظاهرة العنف داخل الأسرة يؤثر على ترابط المجتمع وكيانه المستقر.وقال: إن المنزل والمدرسة ووسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية لها دورها في علاج هذه الظاهرة، التي أخذت تتفاقم مع انتشار وسائل الإعلام وما تبثه من تشجيع للعنف من أفلام ومسلسلات، جاء ذلك في حوار مع الشيخ عبدالعزيز الحميد ل(الجزيرة) وفيما يلي نصه:
* في البداية قلنا له.. الحياة اليومية والتكالب على لقمة العيش والظروف الاقتصادية كيف انعكست على العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة الواحدة؟
- إن القاعدة الكبرى في تحقيق سعادة المجتمع وضمان استقراره، والركيزةَ العظمى في إشادة حضارة الأمة وبناءِ أمجادها تكمن بعد عقيدتها وإيمانها بربها في نسيجها الاجتماعي المترابط، ومنظومة القِيَمِ المتألقة، التي تنظم عواطف الود المشترك، والحب المتبادل، والتصافي المشاع، والصلة المستديمة، في بُعدٍ عن الضغائن والبغضاء، وغوائل التقاطع والجفاء، وإثارة الأحقاد والشحناء. غير أن المتأمل للأوضاع الاجتماعية في كثير من المجتمعات الإسلامية يدرك أنه في خضم المتغيرات الاجتماعية، وفي ظل تداعيات النقلة الحضارية، وفي دوامة الحياة المادية، ومعترك المشاغل الدنيوية حدثت أنواعٌ من السلوكيات والأنماط الخطيرة التي يُخشى أن تؤثر في اختلال نظام الأمة الاجتماعي، ويأتي الانفتاح العالمي، والانجراف في تيار العولمة ليزيد في نار هذه السلوكيات، ويشعل هذه السلبيات؛ مما يؤكد أهمية تمسك الأمة بعقيدتها، وقيمها الحضارية، وأخلاقها الاجتماعية الأصيلة.
* العنف الأسري ظاهرة طارئة أم أنها لها جذور ولكن الإعلام ساهم في إبرازها؟
- يعد العنف من الأمور الطارئة في حياة الأمم والشعوب، والتي يؤثر وجود العنف فيها على الاستقرار والأمن في المجتمع، ولتحقيق تماسك بنيان المجتمع وضمان أمنه لا بد من السعي إلى القضاء على العنف أو التقليل منه، وبالرغم من أنه لا توجد تعريفات محددة للعنف -نظرًا لاختلاف ظروفه ومسبباته- إلا أنه يمكن الإشارة إلى أن العنف يعد سمة من سمات الطبيعة البشرية، يظهر حين يكف العقل عن قدرة الإقناع أو الاقتناع فيلجأ إلى تأكيد ذاته ووجوده بقدرته على الإقناع المادي وهو استعمال القوة. ويرى آخرون أن العنف هو الاستخدام العقلي للقوة، أو التهديد باستخدامها لإلحاق الأذى والضرر بالغير. كما عرفه بعض الباحثين الاجتماعيين بأنه: (مفهوم سلبي يرمي إلى انتزاع المطالب بالقوة وإكراه الآخر على التنازل عنها أو الاعتراف بها).
والعنف لا يأتي من خلال التفكير المتعقل، وإنما يأتي بعد أن يتوقف العقل عن التفكير ويرى طريقًا واحدًا فقط لإقناع الآخرين برأيه أو منهجه عن طريق القوة؛ فينتج عن ذلك اختلافات كبرى، وزعزعة للاستقرار سواء بين الأفراد أو المجتمع.
* وهل كشفتم عن الإسلام من العنف الأسري؟
- المتأمل في القرآن الكريم والسنة النبوية يتبين له أن هنالك إشارات قوية تدعو إلى نبذ العنف واستعمال القوة، وخاصة في محيط الأسرة التي هي النواة الأولى للمجتمع.
ففي إطار المعاملة بين الزوجين نجد في القرآن قوله عز وجل مخاطبا الأزواج: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}؛ فالقرآن الكريم يؤكد على وجوب الإحسان إلى الزوجة حتى مع الكره النفسي لها، وقال عز وجل في شأن المطلقات: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ)؛ فإذا كان هذا هو الشأنَ المأمور به في معاملة المطلقات والمكروهات؛ فما بالكم بالزوجات الطيِّعات؟!
فمعاملة الزوجة باللطف والإحسان من علامات الإيمان، وهذا العنف قد يصدر من الزوج أو من الأخ أو من الأب أو من مختلف أفراد المجتمع، لكن الزوج - في الغالب - يبقى هو المصدر الأول؛ لذلك جاءت آيات القرآن الحكيم تدعو الأزواج إلى حسن المعاشرة قال عز وجل: {وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
وفي السنة النبوية بين الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل وجوب الإحسان إلى الزوجة، وجعل ذلك من علامات الخيرية؛ فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والحاكم والترمذي من حديث عائشة - رضي الله عنها -: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي)، بل إن ذلك كان من آخر ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا)، وقد نفر الرسول الرحيم صلى الله عليه وسلم من العنف مع الزوجة خاصة في غير ما موضع؛ ففي الصحيحين من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لا يَجْلِدُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ).
وفي مجال تربية الأولاد فحسبنا حديث عَائِشَةَ - رضي الله عنها - عند مسلم قَالَتْ: (مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلا امْرَأَةً وَلا خَادِمًا إِلا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وحديث أنس رضي الله عنه في الصحيحين مشهور: (خَدَمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُف، وَلا لِمَ صَنَعْتَ، وَلا أَلا صَنَعْتَ).
وفي أمر العامة فقد قبح الرسول صلى الله عليه وسلم أمر العنف والشدة، وزين أمر الرفق واللين، حتى لو كان ذلك في مقابل الإساءة؛ فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه - والحديث في الصحيحين - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ).
وفي الصحيحين أيضًا عن عائشة - رضي الله عنها - وعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيَرْضَى بِهِ وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لا يُعِينُ عَلَى الْعُنْفِ)، بل دعا الرسول صلى الله عليه وسلم على من يشق على رعيته؛ روى مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا: (اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ).
* ولكن الإسلام أباح تأديب وضرب الزوجات؟
- وحتى عندما أباح الإسلام الضرب فقد جعله آخر العقوبات، وحده بحدود وقوانين صارمة، وحث فيه على أن يكون ضرب تأديب غير مبرح؛ قال الله عز وجل: (وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً)، وروى أحمد في مسنده عن معاوية القشيري رضي الله عنه قالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ مَا حَقُّ زَوْجِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: (تُطْعِمُهَا إِذَا أَكَلْتَ، وَتَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلا تَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلا تُقَبِّحْ، وَلا تَهْجُرْ إِلا فِي الْبَيْتِ).
فهذا موقف الدين الحنيف من العنف أقوالاً وأفعالاً، وقد تبين فيها - بما لا يدع مجالا لشك - فالإسلام حرص على الرفق في كل الأمور، وأن من يُحْرَمِ الرفق فقد حُرِمَ الخير كله، تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ).
* وما هي مظاهر العنف الأسري؟
- تتعدد مظاهر العنف الأسري في المجتمع بصور كثيرة؛ فمنها ما يكون بين الزوجين، ومنها ما يعد من صور العنف من الوالدين تجاه الأبناء، ومنها ما يكون بالعكس، ومنها العنف المتبادل بين الأبناء، ومنها العنف بين الأسر بعضها وبعض، ومنها العنف تجاه المجتمع، ومن ذلك ما ينقل لنا من أن بعض الناس يضرب زوجته بالعقال أو بسوط، وهذا ليس بضرب، وهو لا يؤدب ولا يفيد، إنما يراد ضربٌ يؤدي - فعلاً - إلى نتيجة، لكن الذي لا يؤدي إلى نتيجة لا يجوز؛ لأنها مسلمة ولا يجوز أن يُعتدى على مسلم بغير حق، ولا يجوز ضرب التعذيب؛ إلا إذا كان حدًا شرعيًا، وهناك أناس عندهم نزعة سادية - كما يقولون في مذاهب علم النفس - يتلذذ بالتعذيب؛ عنده تعذيب الزوجة مسألة فيها لذة لنفسه، ولذلك فهو يشفي غليله ويريح نفسه إذا ضرب، فإن لم يضرب فلا يستريح، وبعض الرجال يعيرون زوجاتهم بعيوب خلقية؛ كأن يقول لها: يا عرجاء، يا حولاء، يا قصيرة، يا ذميمة، وهي تقول له مثلاً: أنت يا بدين، يا سمين، ونحو ذلك من الألفاظ، وهذا أيضًا يعد من قبيل العنف اللفظي، وهو لا يقل في أثره وإيذائه عن العنف الجسدي إن لم يكن أشد!
* الظاهر الأكثر شيوعاً هي عنف الآباء ضد الأبناء لماذا؟
- عنف الآباء تجاه الأبناء حدث ولا حرج؛ فما بين ضرب مبرح يصل إلى حد التعذيب، وما بين توجيه الشتائم والسباب والصراخ إليهم، وما بين إهانتهم بما لا يحتمله الآباء أنفسهم، وجاءت إحصائيات العنف ضد الإناث أكثر منها ضد الذكور؛ فعلى سبيل المثال: يؤكد الدكتور أمين العاقب اختصاصي الأطفال في مستشفى الملك فهد (أن نسبة حالات العنف للضحايا الإناث في المملكة شكلت ارتفاعا ملحوظا مقارنة بالضحايا الذكور، وكانت نسبة 48% من إجمالي الضحايا الإناث ما بين سن 19 إلى 35 سنة)، ونشرت إحدى المجلات نقلاً عن مدير الإدارة العامة للحماية الاجتماعية عن تسجيل نحو (220) حالة عنف ضد الأطفال والنساء في المملكة خلال الأشهر الستة الأولى من العام الماضي.
* لكن هناك ظاهرة أكثر خطورة وهي عنف الأبناء تجاه آبائهم كيف تفسرونها؟
- إن عنف الأبناء تجاه آبائهم هذه مصيبة كبرى، فهي تكون نتيجة حتمية للمواقف السابقة، إلا أن بعض الحالات يتخطى مرحلة الرد إلى مرحلة العقوق الشديد، قد يبدأ العنف من الأبناء برفع الصوت أمام والديهم، أو الخروج دون إذنهم، وهذا - وإن كان يعد عقوقًا في عرف الشرع - أخف مما سأنقله لكم منشورا في الصحف، ومن تلك المصائب فهذا أبٌ لما كبرت سنه ووهن عظمه، واحتاج لأولاده؛ لم يجد من يكافئه إلا بالتخلص منه في دور الرعاية، وكأن لسان حاله يتمثل قول الأول المكلوم، وهذا آخر طاعنٌ في السن يدخل المستشفى وهو على فراش المرض، ويعاني من مرارة العقوق والحرمان، ويقول: لقد دخلت هنا منذ أكثر من شهر، ووالله ما زارني أحدٌ من أبنائي وأقاربي، بل تعدى الأمر إلى ما هو أفظع من ذلك؛ فهذا مأفونٌ لما بلغت أمه من الكبر عتيًّا، تبرم وضاق بها ذرعًا، فما كان منه إلا أن أمر الخادمة فأخرجتها خارج المنزل، لتبيت المسكينة على الباب حتى أحسن إليها أحد الجيران، وهذا آخر يطلق النار على أبيه فيرديه قتيلاً من أجل مشادة كلامية.
* العنف بين الأبناء بعضهم ببعض هل يشكل خطراً على المجتمع؟
- العنف بين الأبناء بعضهم وبعض لا يقل عن ذلك، وكأن السنة التي سنها ابن آدم الأول لما قتل أخاه من أجل الزواج بمن يهوى لا تزال باقية إلى عصرنا هذا؛ فما زلنا نسمع بالخلافات بين الإخوة تصل إلى درجات لا تتصور من العنف. وربما تخطى هذا العنف الأسري حواجز البيت وجدرانه؛ وخرج إلى الشوارع والطرق العامة، وما نراه من تبني أبنائنا عادة (التفحيط) بسياراتهم ما هو إلا صورة من العنف الداخلي لديهم ضد المجتمع من حولهم، يخرجونه بهذه الصورة المنكرة التي كثيرا ما تتسبب في إصابتهم أو إصابة غيرهم إصابات خطيرة، وربما أفضت بهم إلى الموت.
* وهل يؤثر هذا العنف على الأمن والاستقرار؟
- المجتمع السعودي من المجتمعات التي تتصف بالأمن والأمان والوحدة الوطنية، وخاصة أن له ميزة تميزه عن بقية المجتمعات الأخرى، وهو وجود الحرمين الشريفين، وتطبيقه للشريعة الإسلامية، واتخاذها دستورًا ومنهجًا هي المادة الأولى في النظام الأساسي للحكم، وأن إحدى المميزات لسياسة التربية في المجتمع السعودي هو المحايدة، وذلك عكس ما هو موجود في كثير من المجتمعات العربية والأجنبية التي تنحاز في تربيتها لمذاهب علمانية شرقية أو غربية.
إلا أن هؤلاء الأفراد هم من أبناء هذا المجتمع، نشؤوا في ظل ظروف معينة وتربية أسرية كان لها الأثر الكثير في هذه السلوكيات، وفي ظل الظروف الراهنة والأحداث المتوالية وانتشار المفاهيم الخاطئة بين جماعات تتعارض مع الفهم الصحيح للإسلام.
* إذن ما أسباب ودوافع العنف الأسري برأيكم؟
- إن العنف والعدوان سلوك يظهر في سلوكيات كثير من البشر، ويرجع إلى عوامل ودوافع تحركه، وقد عرف السلوك العدواني والعنف في كل العصور، وكانت أول صور العنف بين ابني آدم عليه السلام عندما تقبل الله من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، فقتل الخاسر أخاه حسداً وظلماً، وتتعدد أسباب العنف بتعدد مظاهره، وتعدد جوانبه، وتعدد اتجاهاته، أشار إلى بعضها علماء الشريعة، وأشار إلى بعضها علماء النفس والاجتماع، وبعضها حدده الخبراء في الإحصاء والحصر، ولكننا سنحاول الإلمام بعدد من الأسباب والدوافع نحسب - والله أعلم - أن لها الأثرَ الأكبرَ في هذه الظاهرة المقيتة، وإليها يرجع غيرها من الأسباب؛ وهي:
أولاً: الابتعاد عن أوامر الشريعة المطهرة: فهناك من الرجال من نبذ وراء ظهره وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع عندما قال: (وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا)، أو كأنهم لم يسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا) الذي رواه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وهناك أيضًا من النساء من تُعَرِّض نفسها للعنف، بمخالفتها لأوامر دينها؛ فلقد أمر الله سبحانه وتعالى المرأة بصيانة كرامتها وحفظ عرضها، فدعاها إلى طاعة زوجها ورعاية بيتها؛ روى الشيخان عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤولَةٌ عَنْهُمْ)، كما أنها مطالبة بعدم التبرج؛ قال سبحانه وتعالى: (وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى)، والتبرج هو إظهار المحاسن؛ فالمرأة إذا عصت زوجها، أو أهملت تربية أبنائها، أو رعاية بيتها، أو أظهرت محاسنها، شجعت على أذيتها بالقول أو الفعل، وكذلك الأبناء ينسون حقوق آبائهم وأمهاتهم عليهم، ويحسبون أنهم خرجوا من تكاليفهم، واستقلوا بمعيشتهم، وصار لهم الحق في أن يعيشوا حياتهم كيفما يرغبون؛ بلا قيود ولا شروط، ولا رقيب ولا محاسب، وهكذا يكون الابتعاد عن أوامر الشريعة المطهرة سببا رئيسا في تفشي ظاهرة العنف الأسري.
ثانياً: الفهم الخطأ لأمور الشريعة: وكما أن البعد عن الشريعة سبب في كثير من البلايا في المجتمع المسلم؛ فإن الفهم الخطأ لها لا يقل سوءا عن ذلك - إن لم يكن أشد -؛ فالذي ينفذ أمر الشريعة على حسب هواه، وكما يفهمها عقله القاصر أقوى ضرراً من الذي يتكاسل عن تنفيذها، ويحتج كثير من الرجال لضرب أزواجهن بقوله سبحانه وتعالى في حق النساء الناشزات عن الطاعة: (وَاضْرِبُوهُنَّ)، ويحتجون لضرب أبنائهم بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو: (مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلاةِ لِسَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ)؛ فيحمله ذلك على تعذيب أهله معتقدا بذلك أنه ينفذ شرع الله سبحانه وتعالى، وينسى أن الله جعل ضرب النساء حلاًّ ثالثاً بعد العظة والهجر، وأن علماء الشريعة اتفقوا على أن يكون هذا الضرب غير مبرح؛ ضرب تأديب لا ضرب تعذيب.
وتمسك كثير من النساء بقوله سبحانه وتعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، وينسين قوله سبحانه وتعالى بعدها: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ)، ويتمسكن بما يفهمن من قوله سبحانه وتعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ)، وينسين قوله سبحانه وتعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}.
ثالثاً: ضآلة الاهتمام بالتفكير الناقد والحوار البناء: إن كثيراً من بيوتنا تفتقد لهذا الجانب المهم جداً من جوانب التربية، فقد يلاحظ الإنسان -أبا أو أما- على زوجه أو بعض أولاده شيئًا من الأخطاء - مما لا يرتاح له -، فلا يلبث أن يثور وينفعل ويتأثر، ويدعو على ولده، وربما طرده أو ضربه أو سبه، متناسيا أنه بذلك يزرع في نفس الولد العنف بيده، ويبعده بعدا تاما عن أسلوب الحوار والتفكير الجيد الناقد المصلح، فينشئه متعودا على أن حقه لا يأتيه إلا بالقوة وفرض الرأي على الآخرين، وهذا هو عين العنف وحقيقته.
رابعاً: عدم تكوين روح التعلق بالمجتمع الإسلامي أو بالأمة الإسلامية: وهذه الروح ضرورية للفرد للعيش في الحياة الاجتماعية ولدوامها، أما ضرورتها لحياة الفرد في المجتمع فهي أن الفرد لا يمكن أن ينجح في حياته في المجتمع إذا عمل لمصلحته الخاصة باستمرار دون مراعاة شعور الآخرين وحقوقهم الطبيعية، ولا يمكن أن تنجح حياته أيضا إذا عاش منعزلا؛ فإن حياة العزلة إذا استمرت لا ينجو الفرد من عواقبها الأليمة بما يصاب به في النهاية من أمراض نفسية، ومن أهم فوائد الاختلاط أن يجرب الإنسان نفسه وأخلاقه وصفات باطنه، وذلك لا يقدر عليه في الخلوة فإن كل غضوب أو حقود أو حسود إذا خلا بنفسه لم يترشح منه خبثه، وهذه الصفات مهلكات في أنفسها يجب إماطتها وقهرها، ولا يكفي تسكينها بالتباعد عما يحركها، وهذا مهم لتنشئة حياة اجتماعية سوية عن طريق التربية؛ إذ إن الانحرافات والأحداث والمخالفات ترجع إلى عدم نشأة الإنسان نشأة سوية.
خامساً: التفكك الأسري والاجتماعي، والنظرة السطحية للغرب: وهذا الحال تشهدها عدد من البلاد العربية مما يؤدي إلى انتشار الأمراض النفسية وارتفاع نسبة المجرمين والمنحرفين.
وقد أدرك الغرب أن أخلاق كثير من الأطفال تفسد في سن مبكرة بسبب المحيط السيئ والوسط الفاسد الذي يفتقد المراقبة والتوجيه السليم، ولاشك أن حرمان الطفل من هذه الحاجات ومعاملته بالقسوة منذ صغره يتسبب في أن ينشأ قاسيا ناقما على الناس، يتخذ من الانحراف وسيلة للثورة على مجتمعه وبيئته وما يحمله من مفاهيم ومعايير ومُثُل، متحديا جميع الاعتبارات غير عابئ بها.
سادساً: رفقاء السوء والدعم المالي (وهذه تدخل ضمن العوامل الاجتماعية كذلك): لا شك أن للرفقاء دورا لا يستهان به في النزوع نحو العنف، ولا سيما عندما يكون تأثير هذه الشلة قويا، في وجود شخصية ضعيفة أو إيحائية أو غير مستقرة أسريا، كما أنها تسمح للفرد بالتعبير عن رأيه بحرية حتى لو كانت آراؤه خاطئة، بل ربما وجد فيها الفرد متنفسا للكبت الداخلي لديه، أو محرضا على سلوك لا يقره المجتمع أو المنطق.
سابعاً: انحراف البعض بمسيرة التعليم: إننا أمام إشكالية انحراف البعض بمسيرة التعليم، بالرغم من الضوابط المنهجية التي تفرضها الجهات المعنية؛ ذلك أن علاقة الطالب بأستاذه لا تنحصر في الصف الدراسي فقط، بل تتعداه - كما هو معلوم - إلى النشاطات غير الصفية، وهي مجال خصب وبيئة صالحة لتفريخ الكثير من الأفكار الغريبة والتوجهات التي تسعى إلى فرض نفسها بأساليب أقلها العنف والشدة، والنتيجة أن ينحرف سلوك الطالب تجاه أقرانه ليفرض عليهم أفكاره التي استقاها دون تثبت من بعض أساتذته؛ فهو لا يملك أدوات التثبت؛ لأنه غير مطلع على المصادر التي تتناول الموضوعات الخلافية وتنظر فيها بعين التدبر، والعمل على إخضاعها لموازين الكتاب والسنة وأقوال العلماء وأهل الاجتهاد.
ثامناً: وسائل الإعلام والاتصال: فلا ريب أن لوسائل الإعلام دوراً لا يستهان به في تغذية أو دعم أو ظهور العنف، فهي بما تقدمه من برامج وأفلام وأخبار وأساليب للإخبار عن الأحداث أو تركيبها وسيط مشارك في تفشي ظاهرة العنف ومن وسائل الإعلام التلفاز أو القنوات الفضائية التي في أغلبها تنتهج منهج التطرف، فإما الاستهتار بالعقول والشعائر الدينية والأخلاقية، أو زرع الفتن وإثارتها من خلال بعض البرامج أو الأفكار، والتهويل والتضخيم فيها.
* وكيف يقوم الفرد بدوره في علاج العنف الأسري؟
- يمكن للفرد أن يدرب نفسه على اعتزال أسلوب العنف، وذلك يكون بإصلاح النفوس بالخوف من الله سبحانه وتعالى، ومراقبته، واستشعار معيته، وتعظيم أمره ونهيه في ذلك، وتربية النفوس على التكافل والإحسان، وحفظ اللسان، والتثبت عند إطلاق الشائعات، والحذر من الغضب، وكظم الغيظ والسعي في الإصلاح مع الصبر والتحمل، والعفو والتجمل، واليقين بأن قوة الأمة إنما تكمن في تماسكها وترابط أبنائها.
وليتذكر كل منا ما روى مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا: (اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ).
* وماذا عن دور الأسرة في علاج هذه الظاهرة؟
- لقد اهتم الإسلام بالأسرة اهتمامًا كبيرًا، وجعلها الخلية الأولى في المجتمع، ولم يترك صغيرة ولا كبيرة من شئونها إلا وأوضحها بما لا يدع مجالاً للشك {..وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}.
فإذا قام الأبوان بدورهما كاملاً في تنشئة أبنائهما على تشرب روح التعاليم الإسلامية، وحَرَصَا على تفادي عناصر التفكك الأسري؛ فإن هذه الخلية ستكون صالحة، وتنبت رجالاً ونساء صالحين يسهمون في إسعاد أنفسهم وتقدم مجتمعهم نحو الأفضل، ومن هنا ينبغي على الأسرة أن تعي دورها جيدًا، وتعمل وفق منهج التربية الإسلامية، وتحمل كامل المسؤولية من كل فرد، وكما جاء في الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)، قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: (وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ).
وفي المملكة العربية السعودية التي تعترف بالأسرة، وتصفها ضمن النظام الأساسي للحكم الذي نصت المادة التاسعة منه على أن: (الأسرة هي نواة المجتمع السعودي، وتربي أفرادها على أساس العقيدة الإسلامية، وما تقتضيه في الولاء والطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر، واحترام النظام وتنفيذه، وحب الوطن والاعتزاز به وبتاريخه المجيد).