يعتقد بعضهم أن رفع مستوى وعي المجتمع وزيادة حصانته وأن تكثيف المناعة وزيادة جرعاتها تكفي الشعوب وتغنيها عن أن تمارس الدولة سياسة حجب بعض الممنوعات الضارة ومنع بعض الأفراد من الممارسات المخلة.. معللين ذلك بأن الكون اليوم أصبح قرية صغيرة متواصلة دولها وشعوبها، كما أن التقنية والاتصالات اخترقت كثيراً من الحجب التي كانت تحول بين الشعوب وبين الحصول على ما يعد ممنوعاً أو مخلاً.
وهنا نتساءل هل هذا الإجراء كاف لحماية أديان الناس من الانحراف، والمحافظة على المجتمعات من الذوبان والابقاء على خصائصها وحماية ثوابتها؟ وهل الدول المتقدمة تكتفي بالمناعة عن المنع؟ مع أنها تملك مؤسسات إعلامية كبرى تؤهلها للقيام بحملات توعوية عملاقة، وهل من ينادي بهذا المبدأ يكتفي بأن تقوم الدولة برفع مستوى الوعي إذا تناولته الأقلام أو عارضت شهواته بعض الأجهزة الرسمية؟
بل تراه يطالب بالمنع في أقوى صوره، وأسرع إجراءاته، ويرى المنع - والحالة هذه - سلوكاً حضارياً بل إن هؤلاء لديهم قائمة طويلة من الممنوعات لا يسمحون لأحد أن يطالب بإباحتها أو الدعوة إليها. وحقيقة الأمر أن الممنوعات التي يطالبون بإباحتها والاكتفاء بزيادة الوعي بشأنها هي ممنوعات تحقق لهم شهواتهم من مثل: افتتاح دور السينما، وفسح الكتب التي تحمل مخالفات شرعية، وإباحة الاختلاط وووو.
إن المتأمل في حقيقة هذا الأمر يجد أن المناعة لا تغني عن المنع، بل لابد منهما جميعاً، ولا يغني أحدهما عن الآخر إذ لكل منهما مجاله الذي لا يغني عنه سواه. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الناس يختلفون من حيث تزكيتهم الشخصية ومقوماتهم السلوكية فهناك شخصيات إيجائية وأخرى استغلالية وثالثة مخادعة ورابعة سريعة التأثر فعلى هذا قد تنفع المناعة مع بعضهم ولا تجدي نفعاً مع فريق آخر.
وأيضاً فإن الشهوات والشبهات لها بريق خادع وتملك من الإغراء ما يحقق لها اختراق أعتى تحصينات المناعة الشخصية - إلا ما شاء الله - ومن ينظر في ضحايا المخدرات والايدز وخيانات الأديان والأوطان يعلم ذلك علم يقين.
وأيضاً فإن النفوس ضعيفة والشبه خطافة وشياطين الإنس يتربصون بالخلق، فلابد من مناعة ومنع، هذا فيما يتعلق بالمناعة وشأنها.. أما ما يتعلق بالمنع فلابد منه لأمور منها:
أولاً: أننا مجتمع مسلم- ولله الحمد- وتحكمه دولة مسلمة تعتز بدينها وتحرص عليه وتدافع عنه، وتنطلق سياساتها من معين الكتاب والسنة، والممنوعات التي تحجب والممارسات التي تقمع إنما هي مخالفات شرعية لا مجال للمساومة فيها، والمحرمات إنما حرمها الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم- ولا يملك أحد من البشر أن يحل ما حرم الشارع، أو يحرم ما أحل، وعلى هذا فالمنع منع شرعي ليس منعاً تعسفياً، ولم يأخذ المنع صفته من اجتهاد أو هوى. ولابد من وجود المنع تشريعاً وتنفيذاً، إرضاء لله ومتابعة لرسوله- صلى الله عليه وسلم- وحفظاً لحرمات المسلمين وأعراضهم وأموالهم.
ثانياً: أن الله حرم أشياء رحمة بعباده ومنعهم من أشياء لئلا يقعوا في الحرج والتهلكة، ورغب ورهب في التحذير منها وبين العقوبات الأخروية المترتبة عليها.. وعلم أن من البشر من سيتقحمها رغم التحذير منها والمنع منها ولذا شرع الحدود والزواجر الفردية، كحد الزنى والقصاص والسرقة، وجاءت سنته بالعقوبات الدنيوية العامة من مثل قوله تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}.
ثالثاً: أن الله إذا حرم شيئاً حرم كل ما يوصل إليه، فلما حرم الزنى حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية، وحرم أن تسافر المرأة بغير محرم، وأن تخضع في صوتها، وأمر بغض البصر إلخ. وإذا أمر بشيء أمر بكل ما يعين عليه ويوصل إليه، فلما أمر بالصلاة أمر بالوضوء وبالمشي إلى المساجد وانتظار الصلاة والتطهر لها والتطيب من أجلها فتكون الممنوعات تارة تمنع لذاتها وتارة تمنع وتحرم تحريم وسائل.
رابعاً: ان السنة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم قولية أو فعلية مملوءة مما يمكن أن يسمى بلغة العصر تحصيناً وتوعية كما أنها اشتملت على المنع والحجب، من مثل ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن الحسن أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كخ كخ ألقها أما شعرت انا أهل بيت لا نأكل الصدقة).
ورأى النبي صلى الله عليه وسلم مع عمر بن الخطاب رقعة من التوارة كما أخبر جابر بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فغضب فقال أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).
خامساً: لو كانت المناعة تغني عن المنع لما شرع الله سبحانه وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالأمر بالمعروف يؤدي دور المناعة، والنهي عن المنكر يؤدي جانب المنع، وأيضاً فالأمر يحقق الإيجاد للفعل، والنهي يحقق كف النفس عن الوقوع في المحرم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه) فبين أن للمنع درجات بحسب من يقوم به من ولي مكلف، وبحسب ما يقع على الفرد من مسؤولية الإنكار في بيته وعلى من تحت يده. ولعن سبحانه بني إسرائيل على تخاذلهم عن هذا الأمر العظيم.
سادساً: اننا نرى سياسات الدول الغربية التي تأخذ بمبدأ الحرية الشخصية تمارس الأمرين معاً فيما يحقق لها أهدافها فتقوم بالحملات التوعوية، وتسن القوانين التي تمنع بعض الممنوعات وتجرم بسببها.
وختاماً فكما لا نستغني عن الهواء والماء وأن أحدهما لا يغني عن الآخر فكذلك كل مجتمع يحتاج في أنظمته ودساتيره إلى المناعة والمنع.. والله من وراء القصد..
* الأستاذ المشارك بجامعة الملك سعود