.. والكرسي الذي أعنيه ليس بالتأكيد كرسي طلب العلم الذي لم أصدق أن أفارقه أو يفارقني منذ أمد طويل.. بل هو (كرسي) المنصب الوظيفي، وبقدر ما يكون عالياً.. بقدر ما يكون أكثر دفئاً وبلاغةً وتحفيزاً على الكلام.
|
حدثني صاحبي الذي شغل أكثر من مركز مرموق.. قال: (حين عينت لأول مرة مديراً لإحدى الإدارات الحكومية كان لزاماً علي أن ألقي كلمة في الاجتماع الأول مع موظفي إدارتي لأبيّن لهم ملامح الخطة القادمة التي سأتبعها، كنت متوجساً قلقلاً خائفاً متلعثماً لأنني ببساطة لم أتعود على إلقاء الكلمات؛ فلا أذكر أنني خلال دراستي قد اشتركت في أي حفل خطابي؛ ولذا فقد احترت وشعرت بالرهبة ولكن فرج الله قريب.. فما إن بدأت أتحدث بصوت مبحوح، وفرائص مرتجفة وحلق (ناشف)، وكلمات أدفعها دفعاً.. حتى رأيت نظرات الإعجاب والاستحسان والابتسامات ترتسم على محيا الحضور؛ ما شجعني على الاسترسال والإطناب حتى نهاية الدوام الرسمي، وحين عدت إلى المنزل كنت أتساءل عن سر إعجاب هؤلاء الموظفين بكلمتي رغم أنني لم أقل إلا عبارات عادية ومن قاموس فقير لأبحديات العمل الإداري والمعرفي.. وبعد تفكير اهتديت إلى السر.. والسر يكمن في الكرسي! (الكرسي الدوار) لا غير.. فهو المتحدث الذي لا يُملّ سماعه، وهو البلسم الشافي لكل الأمراض الوظيفية الذي يدلف من بوابتها المتملقون والوصوليون، والباحثون عن (حوافز) فللمنصب في عالمنا الثالث سحر أخّاذ.. أين منه سحر الحسان.. (السقيمات الجفون):
|
يا سقيم الجفون من غير سقم |
بين عينيك مصرع العشاق |
إن يوم الفراق أصعب يوم |
ليتني مت قبل يوم الفراق |
ما علينا وشعراء الغزل الذين ضيعونا في مراهقتنا ومطلع شبابنا!!
|
أذكر أيضاً مديراً آخر.. اشتهر باجتماعاته المتكررة التي يلقي من خلالها خطبه العصماء.. ودون أن يتيح لأحد بالحديث أو التعقيب أو إبداء الرأي كما يفترض.. فما إن غادر المنصب ولم يعد يجد من يسمعه اتجه إلى الندوات والأمسيات بغية إتحاف الحضور بكلماته التي لم يعد يسمعها أو يعجب بها أحد، لا لشيء إلا لأن الناس كانوا يستمعون في المرات السابقة لصوت الكرسي الدوار، أما الآن فهم غير مستعدين لإضاعة وقتهم في سماع كلام لا يملك صاحبه أي سلطة.
|
نحن في عالمنا الثالث الذي أسموه تأدباً (العالم النامي) في حين أن بعض دوله تنمو إلى الخلف، مأخوذون بسلطة الكرسي الذي لا يدوم بدلاً من أن نكون مأخوذين بسلطة الوطن والمواطن وبمخافة الله.
|
ثمة في رأيي أزمة سلوكية أو فلنقل خلل وظيفي؛ ما يساهم في إعاقة مفهوم التنمية الوطنية من خلال الانصياع للضعف الإنساني بكل أشكاله.
|
فيا صديقي المدير.. إذا رأيت (أسنان موظفيك) بارزة عند اجتماعك بهم.. فلا تظنن أنهم يتبسمون لك، بل يبتسمون للكرسي الذي تجلس عليه.. فلا تنخدع وثق بأن الطريق إلى تفعيل سلطة الكرسي تمر من خلال جهدك وإخلاصك ومخافة ربك.. الكرسي لا يدوم!!
|
|