استكمالاً للمقال السابق في هذه الصحيفة المميزة عن صحتنا النفسية وهل هي على ما يرام؟ وردتني العديد من التعليقات عبر موقع هذه الجريدة على الشبكة العنكبوتية وعبر البريد الإلكتروني.
|
والوسائل الأخرى وجميعها تؤكد على أهمية الموضوع والتوسع في الحديث عنه باعتباره يهم جميع شرائح المجتمع أفراداً وجماعات.
|
ومن مجمل الردود (والتي اعتبرها مصدر فخر وإعزاز)، يُؤكد أن حجم الأمراض النفسية التي وردت في المقال السابق أكثر بكثير من الواقع وأن معظمها لم يسجل في الوثائق أو الجهات الرسمية الحكومية للأسباب التي أوردتها في مقالي السابق، بل إن السنوات القليلة الماضية وبناء على المتغيرات السياسية والاقتصادية والأخلاقية المفاجئة والسريعة التي تزامنت معها انتشرت الضغوط والتوترات والخوف ومصادر القلق التي أدت وتؤدي إلى الأمراض النفسية المختلفة، مما أدى إلى صراعات نفسية واجتماعية داخلية وخارجية ونشوء وتزايد عدد من الأمراض النفسية والاجتماعية التي يصعب السيطرة عليها في ظل الجهل وعدم الوعي بها.
|
ومن المناسب هنا التذكير بأن المقال السابق قد استعرض ما رآه الكاتب لأهم الأسباب التي تشكل أساساً لاعتلال الصحة النفسية والأمراض النفسية وبالذات تلك التي تعود إلى أسباب خارجة عن دواخل الشخص وتكوينه وتعود إلى بيئته والعوامل الخارجية المختلفة.
|
أما هدف المقال الحالي فهو الإجابة على السؤال الذي يتبادر إلى ذهن كل قارئ ومهتم وهو: كيف نحقق لأنفسنا ولأبنائنا صحة نفسية؟
|
وبمعنى آخر كيف نصل إلى حالة من تكامل الإحساس الجسدي والنفسي والاجتماعي، وكذلك حالة التوازن الدينامكي والذي يمكن وصفها من خلال مجموعة سمات الخبرة والسلوك كالرضا عن الحياة ومعناها والقدرة على مواجهة الضغوط والأزمات والتغلب عليها، ومفهوم الذات والكفاءة الذاتية. وللإجابة على السؤال فلا بد من الالتزام بتطبيق بعض المبادئ والفنيات والتوصيات الآتية:
|
(1) الإيمان الصحيح بالله سبحانه وتعالى وبقضائه وقدره فهذا السر الأول الأساسي والجوهري للسعادة والصحة وقد قال الشاعر:
|
ولست أرى السعادة جمع مال |
ولكن التقي هو السعيد |
ويندرج حول هذا الأساس حديث طويل ومهم يحتاج إلى تفريد مقال أو مقالات خاصة بشأنه.
|
(2) التوافق مع النفس ومع المجتمع:
|
والتوافق مع النفس يعني التعرف على مصادر القوة والضعف والإمكانات لدى الإنسان ومن ثم فإن طموح الإنسان وهدفه أو أهدافه يجب أن تكون في ضوء قدراته وإمكاناته، فهذه أحد مصادر السعادة والنجاح. فالطالب أو الطالبة الذي يمتاز بقدرات لغوية أو أدبية يجب أن يوجه إلى التخصص الأدبي، والطالب الذي يمتاز بقدرات رياضية أو عددية يجب أن يوجه للتخصص العلمي فهذه أحد أهم أسس النجاح في الدراسة.
|
وفي الحياة بصفة عامة يمكن الاهتداء بنفس الأساس والمنطق السابق فإن الاختيار في العمل أو الزواج أو الشراكة يجب أن يكون مستنداً على توافق بين ما يتم اختياره وبين ما نملك من خصائص ومقومات وقدرات وإمكانات لكي نحقق توافقاً مع جميع الأطراف. وهكذا لكي نحقق لأبنائنا توافقاً مع أنفسهم ومع أسرهم لا بد لنا من توفر ثقافة نفسية بما يسمى مبادئ وأسس علم النفس مثل معرفة خصائص ومراحل النمو المختلفة وكذلك معرفة القدرات والميول والاهتمامات ونمط الشخصية والاتجاهات والضغوط النفسية والقلق واستراتيجيات التعامل مع الأزمات والمشكلات التي تواجهنا. ولنا أن نتخيل أسرة تلحظ على أحد أبنائها سلوكاً طائشاً أو عدوانياً داخل المنزل مع نفسه أو مع إخوته في كلامه أو سلوكه وتعاقب هذه الأسرة هذا الابن على كل سلوك خاطئ فهل هذا تصرف سليم؟ الإجابة بطبيعة الحال ب لا؛ لأن هذا الابن ربما يكون لديه فرط زائد في النشاط Hyper Active Child .والأسرة التي تعاقب ابنها على عسره في القراءة أو الحساب هل هذا سلوك سليم؟ نقول: لا؛ لأن هذا الطفل ربما لديه صعوبة في التعلم نمائية أو دراسية Learning Diffiuncy . فما هو المطلوب في هذه الحال؟ أن نكشف على أبنائنا لدى المراكز المتخصصة لتشخيص الحالة ونتعامل مع أبنائنا ونطلب منهم ما هو مستطاع فهذا هو الأسلوب المناسب للصحة النفسية.
|
(3) الشعور بالرضا عن الحياة:
|
وهذا مبدأ مهم من مبادئ الصحة النفسية وهو أرضى بما قسم الله لك تكن أغنى الناس وهو مبدأ إسلامي يتطابق معه كل منطق وعلم. ويجب أن ننوه كذلك إلى أن وجود وتوفر عمل آمن ومناسب للشخص يكفيه وأسرته يمثل بالنسبة لمعظم الناس مصدراً للشعور بالرضا بينما تمثل البطالة مصدراً لعدم الرضا. كما أن فقدان العمل يمثل سبباً لانخفاض الشعور بعدم الرضا ويزداد الشعور بالرضا حينما يكون العمل جذاباً ومناسباً لكي يستطيع الناس استخدام مهاراتهم. ورغم هذا فليست الوظائف الأعلى أجراً هي فقط التي تسبب الشعور بالرضا، فرجال الدين وأساتذة الجامعات هم أكثر شعوراً بالرضا من المديرين كما يذكر مايكل أرجايل في دراسته عام 1984م.ويعد (أرجايل) أن النشاط الإيجابي في وقت الفراغ من المصادر الكبرى للشعور بالرضا، وأكثر أنشطة وقت الفراغ إشباعاً هي تلك الأشكال التي تفيض نشاطاً وانهماكاً ومشاركة، والمجالات الثلاثة الأساسية للشعور بالرضا عن الحياة كما ذكر (أرجايل) هي الآخرون والعمل ونشاط وقت الفراغ.
|
|
إن الوحدة هي من أقسى الأوضاع التي يمكن أن يمر بها الإنسان بصفة عامة -اللهم إلا في حالات التأمل أو الرغبة في الهدوء- وكما قيل الوحدة خير من جليس السوء أي أن الوحدة بشرها وكراهية البشر لها ستكون بديلاً أفضل من صديق سيء. ولذا فإن الصداقة هي أفضل أنماط الاندماج مع الآخرين وتعزيز شعورهم بالقبول والانتماء وبعض الذين يصابون بأمراض نفسية مثل الوسوسة يوصون بالاندماج مع الآخرين والحديث مع الأصدقاء حتى لا يصيبهم الاكتئاب بل وبفعلهم الاندماجي نجدهم يتخلصون من مشاعر الحالة السلبية. وسر الصحة في الاندماج والصداقة هي التوافق النفسي والاجتماعي، والتنفيس مع الصديق في الحديث والهم وهي كذلك مساندة اجتماعية بين الأصدقاء Social Supports.
|
|
فإذا شعرت بضيق أو توتر أو مشكلة أو اكتئاب بمفهومنا (الدارج) فلا تكبتها أو تكتمها فقد تولد انفجاراً لأنه كما قيل: النار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله. بل احكيها واكتبها وأناقشها واستشير فيها صديق أو قريب. وهنا يجدر بي إيراد قصة مناسبة جرت مع صديق لكاتب هذا المقال ففي أحد المؤتمرات التي حضرها كاتب هذا المقال في بلد ما فقابلت صديقاً من المتخصصين في الإرشاد النفسي الذي طلب الحديث معي بشكل عاجل بشأن موضوع طارئ يقلقه ويزعجه وهو معاناته مع بعض موظفي الفندق الذي نقطنه فقد أضاعوا وقته وأثروا في نفسيته في تجهيز إجراءات السفر له التي طلبها منهم منذ يومين وعندما شرح لي تلك المعاناة والضيق الذي أصابه وقد كان في قمة توتره وغضبه، أنصت إليه باهتمام وأبديت تعاطفاً معه وبمجرد أن أنهى حديثه وسماعي له فرغ شحنته الانفعالية من الغضب وتلاشت تلك الآثار!! فهذا سر آخر من أسرار العلاج النفسي وهو ما يسمى بالتنفيس الانفعالي مع صديق أو قريب كما نقول يفضفض أو نفس عن مشاعرك فهذا يرحك ويخفف عنك توترك وقلقك.
|
(6) ثقف نفسك في مجال حل المشكلات والصراعات:
|
فالدورات والمحاضرات وحلقات النقاش وورش العمل تفيد كثيراً في اكتساب مهارات حل المشكلات الأسرية والزواجية وفي العمل مما يمكن التعامل من تخفيف التوتر ومواجهة الصراعات بعدوانية أو بسلبية ولكن علي بالدورات والمحاضرات واللقاءات من المختصين والمصادر الموثوقة المعتمدة وليس من أنصاف المتعلمين أو الدجالين والمشعوذين، فهؤلاء قد يزيدوا المرض مرضاً والمهمومين هماً.
|
(7) تعلم مشاعر التماسك Sense Of Coherence:
|
أي توحيد الإحساسات المتفرقة في هيئة كلية ويتضمن هذا المفهوم:
|
1- التوقع التفاؤلي بأن أمور الحياة ستكون منتظمة وشفافة وقابلة للضبط والفهم.
|
2- الثقة بأنه سيتم السيطرة على الأحداث الحياتية المستقبلية من خلال الجهود الذاتية أو من خلال الدعم والمساندة الخارجية.
|
3- القناعة الفردية المتمثلة بأن الأحداث المستقبلية عبارة عن مطالب أو مهمات ستطرح على الفرد وأن الأمر يستحق أن يبذل الإنسان في سبيلها ويضحي من أجلها.
|
4- قدرة عالية من التكيف مع عالم مليء بالعوامل المرهقة (المرهقات) أو بالعوامل المسببة للإرهاق التي لا يمكن تجنبها.
|
(8) الصحة النفسية مرتبطة بالصحة الجسدية (البندية):
|
والحكمة تقول: (العقل السليم في الجسم السليم)
|
إذا كانت النفوس كباراً |
تعبت في مرامها الأجساد |
الجسد السليم يساعد في صحة نفسية سليمة، والأمراض النفسية أحياناً تسبب أمراضاً جسدية مثل الأمراض التي تسمى الأمراض (السيكوسوماتية).
|
وقبل الختام فإني أدعو من هذا المنبر الإعلامي المهم إلى إجراء دراسة مسحية شاملة على مستوى المملكة تتبناها وزارة الصحة ووزارة الشؤون الاجتماعية ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية مع بضع الجامعات بهدف معرفة حجم ونوعية الأمراض النفسية المنتشرة في المملكة لأن من شأن ذلك تكوين القاعدة الأساسية للبحث العلمي ولإصدار الأحكام بخصوص هذا الموضوع ووضع الخطط والاستراتيجيات للوقاية منها وعلاجها.
|
|
إن تمام الصحة النفسية المثالية يأتي مع تطبيق الدروس السابقة وبالتأمل في الأقوال الآتية:
|
أ- حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أصبح معافى في جسده آمناً في سربه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا).
|
|
أيها المشتكي وما بك داء |
كن جميلاً ترى الوجود جميلاً |
|
أُعلل النفسِ بالآمالِ أرقُبُهَا |
ما أضيقَ العيشَ لولا فُسحةَ الأملِ |
وختاماً فإن أفضل ختام لهذا المقال هو قول الإمام الشافعي:
|
إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى |
وحظك موفور وعرضك صين |
لسانك لا تذكر به عورة امرئ |
فكلك عورات وللناس أنس |
وعينك أن أبدت إليك مساوياً |
فصنها وقل يا عين للناس أعين |
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى |
وفارق ولكن بالتي هي أحسن |
|
|