الكل يبحث في أسباب الأزمة المالية وإفرازاتها من أجل تجنب أسبابها مستقبلاً ومن أجل التخفيف من آثارها في الحاضر والمستقبل، وهذه الأسباب كثيرة ومتداخلة يصعب الوصول إليها بسهولة وإن بدا بعضها واضحاً للراصد بسهولة.
والواضح للجميع أنّ الأزمة المالية نشأت بسبب إقراض ذوي السجلات الائتمانية الضعيفة لشراء مساكن لهم بنظام الرهن العقاري في الولايات المتحدة التي قامت بتسنيد هذه الرهونات بضمان قيمة المساكن المرتفعة القيمة أساساً، وحينما عجز هؤلاء عن تسديد الأقساط الشهرية سحبت المساكن بكميات كبيرة فانهارت أسعار المساكن، ما جعل السندات المصدرة بضمانها وما بني عليها من مشتقات مالية أوراقاً مسمومة يجب تحويلها لديون معدومة لدى المؤسسات المالية المقرضة والمستثمرة.
ولكن ما هو ليس بواضح حسب اعتقادي، أنّ السبب الرئيسي لتلك الأزمة، هو الفجوة الكبيرة بين مطوري السوق المالية والهيئات المنظمة لها خصوصاً في الدول الغربية، حيث صرفت المؤسسات المالية المطورة للأوراق المالية ولأدوات الدين الكثير من المليارات لتطوير المشتقات المالية وتطوير وسائل تمويلها من أجل تعزيز المضاربة لتوليد المال من المال لتحقيق أكبر الأرباح في أقصر الأوقات مستندين إلى الثورة المعرفية والتقنيات الاتصالية العالية التي مكنتهم من الوصول إلى أموال معظم أفراد الشعوب واستدراجها إلى كمائن النهب المخطط.
ونحن نعلم أنّ الأسواق المالية تتكوّن من مطورين لهذه الأسواق وهيئات منظمة لا تقوم بتنظيم إصدار وطرح وإدراج وتداول الأوراق المالية أياً كانت، بما فيها المشتقات، إلا بعد أن تطورها المؤسسات المالية العاملة في تلك السوق، حيث إنها الطرف المبادر في تطوير الأوراق المالية ووسائل وآليات طرحها وتداولها وتشكيل أعرافها النظامية لتعزيز دور السوق المالية في دعم الاقتصاد الحقيقي كما هو مفترض.
القائمون على المؤسسات المالية المطورة للأوراق المالية طرحاً وإدراجاً وتداولاً، لا يهرولون عبثاً في الأمس واليوم والغد، وإن ادعوا الوضوح والشفافية، وكلنا يعلم حجم التضليل الذي حصل في أسواق المال باستخدام كافة العناصر المصدرة والمصنفة للأوراق المالية فضلاً عن كبريات المكاتب المحاسبية، وقد رأينا حجم المكافآت المليارية التي حصل عليها كبار الماليين رغم الدمار الذي أحدثوه حين أتيحت لهم الفرصة من خلال الفجوة التي أوجدوها بينهم وبين الهيئات المنظمة، والسؤال الكبير الذي يدور في ذهني هو: إذا كان الفارق الزمني بين أزمة الكساد الكبير والأزمة الحالية أكثر من 60 سنة، فما هو الفارق الزمني بين هذه الأزمة والقادمة إذا لم يتم تقليص الفجوة بين مطوري الأسواق المالية والهيئات المنظمة لها؟ بظني الفارق الزمني سيتقلص بشكل كبير في ظل سرعة دوران عجلة اقتصاديات المعرفة وتقنياتها والتوسع في استخدامها، بشكل جعل الهيئات المنظمة شبه عاجزة عن ردم الفجوة بينها وبين مطوري الأسواق الذين لن يعدموا الحيلة لإعادة الكرة مرة أخرى في مدة زمنية أقصر.