في حوار مع صاحبي حول الحياة الدنيا وما بعدها قال: لنتصور أن البحر يشكو لربه من الظمأ والماء في جوفه ملح أجاج، فكيف بالإنسان لو امتطى من الطريق مفترقه وحلّ به عطش روحي وإفلاس من ما يركن إليه من درع مادي، سيفقد الطمأنينة وسكينة النفس ليحلّ الضيق والقلق والضياع ...
|
... حتى وإن ادعى غير ذلك.
|
إنها حالة من البؤس والمعاناة القاتلة متى مات حسه الروحي في الأساس بجانب درعه المادي، فالحس الروحي موجه، بخطوات يسكن معها الأمن النفسي بسلام وأمل وانسجام مع الحياة، وتفاؤل بحياة الخلود وما يشاء الله له فيها، إنه بالإشباع الروحي وبدرعه المادي يقوى على مصاعب الحياة المتعددة وكل العقبات فيها، وبدون ذلك الحس الرائع الجميل تتحطم النفس فتتناثر أجزاؤها في داخله الذاتي لتصرع وسائل قوته خارج الذات، فهو في فراغ تسرع خطاه نحو الضياع فيئن العقل ويرتعش الفكر بين شتات وإلى شتات، فتضيق به الطرقات فلا فعل ولا تفاعل إلا مع ما توهمه من رشاد في الماديات (غير الدرع المادي) التي لارشاد فيها فتعصره أنفاق الحياة لينزوي بعيداً تجرفه الأعالي من مساكن الحياة إلى قيعانها، وتصدمه الأوهام حيث لا حقيقة معها فتضيع الأحلام، فلا نفس تقوى على شيء ولا عقل يرشدها نحو الجوهر من قيم الحياة فيتسكع بين الأماكن التي يعرفها والتي منها ما لا يعرف فتزجّ به أحاسيس الضياع في بحث متواصل لركن من الأمن وسلام النفس فيتخبط بين ألوان من أوهام ظنّ أنها من الحياة حيث توجهه إلى اعتقاد سياسي أو اقتصادي فيعتنقه ويعلن مبدأه فتصدمه النتائج، فالبداية نهاية والنهاية بداية لأنها حلقة مفرغة ودوران في فلك الشعارات التي بلا وطن.
|
حتى الأخلاق فيه ومنه عرضة لدفع سيئ فيفيق على حقيقة من حقائق التكوين والوجود الذي تمثله ذات المحتوى من هذا التكوين حيث ابتعد عن السنن ونواميس الخالق فأصبح في قفز إلى الأعلى فالأسفل لانعدام نقطة التوازن وفقدان العدل مع النفس والحياة والناس حيث إن العدل في هذه الحالة معنى للوسطية، وبدونه يرتد به إنسان الذات إلى مخلوق غريب على دنياه ونواميس الخالق وبدون ذلك فهو إلى الغربة والضياع.
|
قلت لصاحبي: وماذا عن الدرع المادي، فقال إنه وسيلة وليس أساسا فلو نظرت للناس أجمعين في مجتمع محدد لوجدتهم متساوين في المعتقد وطقوسه أما في درعهم المادي فهم مختلفون، فمنهم من يعيش في حالة الوسط وآخر في حياة من الكفاف ثم فقر أو غنى، فالأسمى والأبقى وغير المحدود بأثره محصلة الإنسان من الرصيد الروحي ومدى إيمانه وأثر هذا الإيمان حيث طاعة الحق سبحانه والرضى والصبر بتفاؤل وأمل. وقد يعتنق البعض ما يعتنق من معتقدات بعيدة عن الروحانيات (الإسلام مثلا) فإن حاله استقرت فذلك إلى حين وحين المصائب وما يحل من النازلات فهو في حاجة إلى قوة تعينه فإن جرَّب مصادر القوة فهي أحوج منه إلى الأقوى معينا وسندا فإن لم تأخذه العزة بالإثم فليس له إلا الفطرة وما تلزم به. إن الانتماء مختلف أمره ومحبب أثره والعطاء به فالدين والوطن وكل امتداد لهما من الواجب ولمسؤوليه أعز مكان - لكن بعض التوجهات قد تؤدي بالإنسان إلى مخاطر أثرها أبعد من كل تصور - ومن تشبعت نفسه بروحانيات وتقوى استقوى بذلك على أهواء النفس وكل باعث لخطر - إن الحياة جميلة ورائعة والأجمل التزود بكل المصادر القادرة على الاشعاع بنور تتوهج به ظلمات النفس والعقل.
|
إذا أمن الإنسان بالله فليكن |
لبيباً ولا يخلط بإيمانه كفرا |
المعري |
إذا غير الله للمرء عدة |
أتته الرزايا من وجوه المكاسب |
الرصافي |
الإخلاص عملة نادرة في مجتمع المادة اللاأخلاقي
|
تأمل سطور الكائنات فإنها |
من الملأ الأعلى إليك رسائل |
|
|