لن أنسى ذلك اليوم الشديد البرودة، عندما خرجت بعد منتصف الليل من مقر جريدة الرياض ومجلة اليمامة في حي المرقب إلى نهاية شارع الخزان، لأقطع الطريق من ذلك المقر إلى منزلي مشياً، على قدمي، ليس لأنني من محبي رياضة المشي، ولكن لأنني لم أكن أملك بضعة قروش أدفعها أجراً لسائق التاكسي أو الباص، لقد كنت أتصبب عرقاً لمجرد التفكير في الاقتراض من صديق، أما مكافأة مجلة اليمامة في ذلك الوقت فقد كانت لا تزيد عن مائتين أو ثلاثمائة ريال في الشهر، وهي تدفع عادة حسب التساهيل، فلا يوجد مسير أو حتى شيكات، حتى راودني الشك ذات يوم بأنني آخذ صدقة لا مكافأة عن أعمال مضنية كنت أقوم بها عن طيب خاطر ومحبة للعمل نفسه، ولو قيل لي أنني لن أحصل على قرش واحد نظير ذلك العمل لقبلت مع وافر الشكر والامتنان، لإتاحة الفرصة لي للعمل، فكيف وأنا أحصل بين وقت وآخر على مكافأة!
ذلك اليوم علمني معنى (القرش الأبيض ينفع لليوم الأسود) وقد عملت على هذا الأساس يوما أو أياماً، لكن الحزمة فرطت بعد ذلك، فقد تزوجت وليس في جيبي سوى بضع ريالات، ولولا واسطة الأصدقاء، لما استطعت الحصول على قرض مجزئ (لن أبوح بمقداره حتى لا أضحك على نفسي قبل أن تضحكوا عليَّ!) لكن يكفي أن أقول أن هذا القرض لا يوازي قيمة تذكرة سفر سياحية، لكنه كان النواة التي أسندت الزير، حتى لا ينكسر أمام نفسه وأصدقائه وزوجته!
من يقرأ هذا الكلام سوف يعتقد أنني كنت من خشاش الأرض، وغيري من زهورها، لكن الحقيقة هي أن الجميع كانوا في الهواء سواسية، فراتب رئيس التحرير بالكاد كان يتخطى العشرة آلاف ريال (انظر إليه الآن جيداً..... من غير حسد!) أما راتب سكرتير التحرير أو المحرر الأصيل، فلم يكن يتخطى حاجز الألف أو الألفي ريال كثيرا، بل إن أغلب الصحف المحلية لم تكن قادرة على تحمل تفرغ موظف أو محرر بكامل وقته لها، فالدخل قليل لأن الجهل كان كبيراً، الجهل بقيمة الإعلان الذي يضخ المال، والجهل بقيمة القراءة اليومية خصوصاً التي تغرد خارج سرب كتب التراث، وتأخر الإخراج والطباعة والتوزيع!!
هكذا رواتب كانت جيدة في ذلك الوقت فالأسعار على قدر المدخول، فشقة جيدة في شارع الخزان بالذات كانت لا تتجاوز الخمسة عشر ألف ريال سنويا هذا الشارع كان مقر البرجوازية الحديثة في المدينة، فلم تكن هناك العليا والمرسلات والروضة والمروج والورود وغيرها من الأسماء التي تعتبر دسمة الآن...
من يسكن شارع الخزان بالأمس كنا ننظر إليه بحسد، أما أنا قد سكنت مثل البدو الرحل على أطراف أطرافه، في حارة بدت حالما دخلتها كأنها بئر، فكل شيء من حولها مرتفع إلا هي غارفة في القعر، لقد سكنت في منزل يضم دستة من المهاجرين من الداخل إلى الداخل يدفع كل واحد ثلاثمائة ريال في العام سكناً ومثلها شهرياً للأكل والشرب والاستحمام والشاي والقهوة والضيوف.
ما شاء الله تبارك الله! من يدفع مثل هذه المبالغ الباهظة الآن؟
أما عندما فتح الله علينا، فقد تبغددت كثيرا حتى أنني تطاولت في البنيان، مقربا خطوة من شارع الخزان.. هناك في حوطة خالد أخذت شقة بغرفتي نوم وحمام وصالة بألف وخمسمائة ريال في العام، أدخلها متى ما أردت وأخرج منها متى ما أردت، لكن المشكلة التي واجهتني حالما تركت الروح الجماعية، هي اكتشاف لون من ألوان الفوضوية الخفيفة وألوان من البرود والإهمال، حتى أصبح الأكل في الخارج والنوم على المقهى وغسل الملابس عند الغسال، تطلعات التهمت كل شيء، حالما نسيت شعاري الذي رفعته اعتبارا من ذلك المساء الشتائي الأسود، الذي عبرت فيه المسافة من المرقب إلى خزان شارع الخزان مشيا على الأقدام، ومازلت ناسيا ذلك الشعار الذي رفعته، رغم الكثير من المستجدات التي تجعلني أفكر جديا في العودة إليه!!
فاكس: 012054137