إن ظاهرة (التغير الاجتماعي) حازت على اهتمام كثير من علماء الاجتماع وفلاسفة التاريخ قديماً وحديثاً وقد أجريت دراسات عديدة لتفسيره وأفردت المؤلفات السوسيولوجية حيزاً كبيراً لتحليله وتحديد متغيراته، وتعقب آثاره وإبراز اتجاهات التنظيم المختلفة التي حاولت صياغة نظريات علمية ...
....جديدة وعديدة تحدد أبعاده، وإذا جاز لنا تقرير الأحكام فيمكننا الحكم على هذا العصر الذي نعيشه بأنه عصر التغير ذلك التغير الذي يعزى إلى متغيرات متشابكة ومتفاعلة.
وقد حاول فلاسفة التاريخ والاجتماع التنظير لظاهرة التغير الاجتماعي والكشف عن قوانين الحركة الديناميكية التي تحكم المجتمعات فصاغوا نظريات عديدة، منها ما هو أقرب إلى فلسفة التاريخ، وأخرى نظريات سوسيولوجية علمية توصل إليها أصحابها من خلال الدراسات العلمية الأمبيريقية.
وتفسر نظرية كونت التغير الاجتماعي بأنها محصلة النمو الفكري للإنسان وقد صاغها في قانون المراحل الثلاث بأنها الارتقاء من أساليب الفكر اللاهوتي الديني إلى الأسلوب الوصفي للفكر الذي يمثله العلم الحديث.. ويصاحب هذا التقدم الفكري نمو أخلاقي وتغيرات في النظم الاجتماعية.
كما توصل أيضاً وليم أوجبرين إلى نظرية في التغير الاجتماعي والثقافي أرجعت المشكلات إلى ما يسمى بالفجوة الثقافية.
وذلك لأن البعد المادي التكنولوجي يسير أسرع من البعد الاجتماعي التعليمي، ومن ثم يجب أن يسير جانبي التغير الاجتماعي بموازاة واحدة حتى يتحقق التغيير في شكل إيجابي.
وفي هذا الإطار سوف نناقش نظرية ابن خلدون من خلال مقارنتها بكل من منظور أوجست كونت ووليم أوجبرن،..
وفي تحليل التغير الاجتماعي والذي تناوله ابن خلدون في الفصل الخامس عشر: في انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة.. يرى ابن خلدون أن للدولة عمر كالكائن الحي وتنقسم الدولة إلى ثلاثة أجيال : الجيل الأول وهو الجيل الذي تنشأ فيه الدولة وتكون العصبية فيه قوية ويشارك كل فرد في إقامة الدولة أي أن هذا الجيل هو جيل نشأة الدولة والمحافظة عليها ويطلق على هذا الجيل مرحلة البداوة، والجيل الثاني يأخذ الأفراد فيه تدريجياً بأسباب الحضارة ويتمتعون بالترف واللهو ولكن تظل العصبية ويطلق على هذا الجيل مرحلة الحضارة، أما الجيل الثالث تتدهور فيه تلك العصبية التي قامت الدولة على أساسها في البداية وتموت وينغمس الناس في هذا الجيل في الترف والملذات ويعجزون عن الذود عن دولتهم ويطلبون أهل النجدة، وتزول الدولة في هذا الجيل، وتأتي جماعة من البدو يقضون عن هذه الدولة ويقيمون دولة جديدة تمر بنفس المراحل ويطلق على الجيل الثالث مرحلة الهرم والزوال وإذا هرمت الدولة فلا مفر عن زوالها وفنائها لأن ذلك أمر طبيعي لا يتبدل.
قسم ابن خلدون عملية التغير الاجتماعي الذي تمر به الدولة من خلال الأطوار التالية:
1- الطور الأول: البداوة.
2- الطور الثاني: طور الحضارة.
بالنسبة للطور الأول وهو طور البداوة فتكون فيه الدولة بدائية وعصبية وما يتبعها من شدة البأس وتعود الافتراس، ويتعاون فيها الناس لإشباع احتياجاتهم الضرورية وحاجاتهم إلى الحماية والدفاع عن أنفسهم ضد مخاطر الطبيعة والكائنات الحية الأخرى.. وبالنسبة للطور الثاني وهو طور الحضارة فالحضارة هي تفنن في الترف وإحكام البضائع من كتابة ونجارة وخياطة وفروسية.. ويركز ابن خلدون في هذه المرحلة على النشاط الصناعي، ويشير في ذلك إلى أن الصناعة مركبة علمية تصرف فيها الأفكار، كما أنه كلما تقدم عمران المجتمع تحسنت الصناعة وارتفعت جودتها فعلى مقدار عمران البلد تكون جودة البضائع للتأنق فيها حينئذ واستجادة ما يطلب منها بحيث تتوافد دواعي الترف والثروة.
ويرتبط الجانب المادي بمظاهر الحضارة والتقدم في جوانب الحياة من ملبس وترف وأدوات وتكنولوجيا.. إلخ.
حيث يسير هذا الجانب بشكل سريع ولا يتفق مع الجانب المعنوي وهو الجانب الثاني للتفعيل الاجتماعي الذي يرتبط بالقيم والمعتقدات، والأفكار فنجد أن يسير ببطء عن الجانب المادي مما يؤدي إلى وجود فجوة ثقافية والتي ينتج عنها مشكلات التغير الاجتماعي وعلى وجه الخصوص مشكلات التغير الثقافي في المجتمع.
وكلما زادت هذه الفجوة أدى ذلك إلى زيادة المشكلات في المجتمع ومن ثم تؤثر على حركة التغير الاجتماعي والتي يمكن أن تؤدي إلى التخلف الثقافي في المجتمع حسب ما يراه أوجبرن.
أما أوجست كونت عندما تناول التغير الاجتماعي ومراحل التغير في المجتمع فقد ربطه بمراحل التفكير العلمي.
وقد قسم هذه المراحل إلى:
1- المرحلة اللاهوتية أو الدينية: وفيها يفسر العقل كل ما حوله من ظواهر عن طريق نسبتها إلى الآلهة كأن يعزو للآلهة رغبات وتصرفات إنسانية يرجع إليها في تفسير أسباب الظواهر وهو ما يستخدم اصطلاح لاهوتي للدلالة على تفسير ظواهر الطبيعة عن طريق الأسباب الخارقة للعادة وقد قسم هذه المرحلة إلى ثلاث مراحل هي : الوثنية - التعددية - التوحيدية.
2- الحالة الميتافيزيقية: وتتميز بأن العقل يفسر المظاهر بمعاني مجددة أو قوى خفيفة أو علل لا يقوى على إثباتها أي يسود هذه المرحلة الأفكار الفلسفية.
3- الحالة الوضعية: وفيها يفسر العقل الظواهر بنسبتها لقوانين وضعية يطبق كونت هذا التطور العقلي على تطور المجتمعات الإنسانية وأيضاً على الفنون والحضارة والرياضة.
وكأن المنبع يبدأ بالمرحلة اللاهوتية وهي تعادل البدائية (البداوة) عند ابن خلدون.
ثم المرحلة الميتافيزيقية وهي تفسير الظواهر وإرجاعها إلى قوى خفية في الطبيعة (وهنا أيضاً يبرز التفكير الخرافي) الذي يعد امتداداً للمرحلة الأولى وإن كان في المرحلة الأولى يبرز فيها بعض الجوانب الدينية إلا أنها تتسم بالبدائية والبساطة الشديدة التي أرجعها أوجست كونت إلى بساطة العقل البشري.
ثم انتقل بعد ذلك إلى المرحلة الوضعية (العلمية) والتي يستخدم فيها المجتمع التفكير العلمي بخطواته وإجراءاته المرتبة والتي تساير العقل البشري في تلك المرحلة.
وهي تقابل مرحلة الحضارة عند ابن خلدون.
حيث يزدهر فيها المجتمع وتنشط جوانب الحياة ويرتبط هذا بالدولة وتقدمها بين الدول الأخرى.
ومن هنا يمكن أن نجد ارتباط واضح بين منظور ابن خلدون وأوجست كونت في تطور الدولة من حيث تقسيم التطور والنقد الاجتماعي في مرحلتين البداوة والحضارة والتي ناقشها أوجست كونت من ثلاث مراحل.
وناقشها وليم اجبرن في مرحلتين (جانين) (مادي ومعنوي) وإن كان وليم اجبرن لم يذكر في متن هذه الجوانب ما يفسر بالبداوة إلا أنه اقتصر في تفسيره للتغيير على جوانب مادية ومعنوية واعتبر أن الجوانب المادية تمثل جانب الحضارة المادية السريعة كما وصفها ابن خلدون.