بينما تذوي باكستان تحت وطأة الأزمة التي تهدد وجودها ذاته، هناك سؤال جوهري يطرح نفسه بشأن طبيعة البلاد: هل مواطنو البلد باكستانيون أولاً ومسلمون ثانياً، أم أنهم مسلمون أولاً ثم باكستانيون ثانياً؟ ما الذي يأتي في المقام الأول من الأهمية هنا، العَلَم أم العقيدة؟
إنه ليس بالسؤال الذي قد يستطيع العديد من الباكستانيين الإجابة عليه بسهولة. يبدو أن الغالبية العظمى ممن يطلق عليهم (أهل النخبة المتعلمة) في البلاد لا يترددون في تعريف أنفسهم بالمسلمين أولاً ثم الباكستانيين في المرتبة الثانية. إن الدين يشكل الأمر الأعظم أهمية في حياتهم، وهم يرون أن ولاءهم لابد وأن يكون دوماً للدين. ويعترف آخرون منهم بأنهم لا يكترثون كثيراً بالدين، ولكنهم يقولون إن باكستان لم تعد تعني الكثير في نظرهم حتى أن ولاءهم للدين أصبح يأتي في المقام الأول قبل ولائهم للدولة.
إن هذا الاستعداد لوضع الدولة في مرتبة تالية للعقيدة، حتى بين أصحاب التعليم العالي، يقع في قلب الأزمة التي تعيشها باكستان. فكيف ننتظر من أي دولة أن تزدهر إن كان أغلب مواطنيها يحملون ولاءً ثانوياً لها؟ وكيف لها أن تتقدم إن كانت فكرة باكستان أضعف من الباكستانيين، كما كتب المؤلف البارز مللي جول أكبر؟
ولكن ما هي فكرة باكستان؟
في أيام الأربعينيات المثيرة نجح محمد علي جناح رغم لسانه الإنجليزي وأدبه الفيكتوري في حشد شعب كامل في مسيرة لإقامة دولة، واقتطع للهنود المسلمين وطناً مستقلاً. أما اليوم فإن محامياً مثقفاً واسع الاطلاع وغربي النزعة مثل جناح لن يجد أي فرصة للفوز بانتخابات شعبية في باكستان.
إن جناح الحقيقي لم يعد مؤثراً في البلد الذي يبجله باعتباره مؤسس الأمة. وقليل من الباكستانيين أصبح لديهم الوقت أو الميل إلى التمعن في أفكار مؤسس دولتهم. لقد تراجعت فكرة جناح عن باكستان - قومية إسلامية جنوب آسيوية - لتحل محلها عقيدة عالمية الإسلام.
لقد أسهم رفض الهوية الهندية الهندوسية وتبنى ميثاق إسلامي عالمي في صياغة الهوية الباكستانية الحديثة إلى حد كبير. والتقدم الاقتصادي يعني التغريب أو ما هو أسوأ، اكتساب الصبغة الهندية. وعند كل منعطف يبدو الباكستانيون أقرب إلى الاتحاد كإخوة في الإسلام من اتحادهم كأبناء أرض واحدة.
إن باكستان تقف الآن عند مفترق طرق، وتواجه لحظة غير مريحة من الحقيقة. وإذا كان لها أن تنجو من مأزقها هذا فلابد وأن يعمل أبناؤها في انسجام تام وإلا فإنها سوف تتعرض لخطر تطهير كافة الميول المعتدلة في البلاد وسط صخب الأصوات الدينية المتشددة.
إن أزمة اليوم تدعو كل مفكر باكستاني إلى توجيه عدد من الأسئلة الجادة إلى نفسه: كيف ينبغي أن تكون فكرة باكستان؟ هل أنا باكستاني أولاً ثم مسلم أو مسيحي أو هندوسي ثانياً؟ أم هل أنا أحد أفراد أمة إسلامية عالمية يعيش في كراتشي أو لاهور؟
إن التحدي الحقيقي والحل المطلق يتلخص في حمل الناس على التفكير في هذه الأسئلة ومناقشتها. ولكن هذه المناقشة لابد وأن تدور بين الناس. ولن يتم التوصل إلى أية حلول لأية مشاكل بالبحث عن (الإسلام الحقيقي) أو الاقتباس من القرآن.
بيت القصيد هنا هو أن غالبية أهل البلد يمكن تعريفهم في النهاية ببساطة بأنهم (باكستانيون)، على الرغم من الولاءات الإقليمية القوية والاختلافات الثقافية والدينية المتعددة - وبرغم الاختلافات الجذرية في تعريف الهوية الباكستانية. إن الصفقة الحقيقة في باكستان لابد وأن تدور في نهاية المطاف حول التعددية.
اليوم توصلنا إلى النظر إلى أنفسنا باعتبارنا مكونات مختلفة لمُرَكَّب واحد؛ وكثيراً ما نتناقض ونتعارض داخلياً. ففي رسائل بابار على سبيل المثال نرى التناقضات الداخلية في شخصية مؤسس إمبراطورية المغول الكبار. فحين يصف غزوه لمدينة تشاندري في عام 1528 يقدم بابار تفاصيل مروعة للمذبحة الدموية التي حصد فيها أرواح العديد من (الكفار)، ولكن بعد بضع جمل يتحدث باستفاضة عن بحريات تشاندري وينابيعها المتدفقة ومياهها العذبة. من كان بابار إذن؟ هل كان طاغية متعطشاً للدماء، أم شاعراً إنسانياً، أم الاثنين - وليس بالضرورة أن يكون النقيضان متصارعين؟
إن الفردية الباكستانية لابد وأن تتوسع إلى أقصى الحدود وأن تكون رحبة إلى الحد الذي يسمح لها باستيعاب البنجاب والسند والبالوتشيين والباثانيين ودياناتهم - الإسلام السُنّي والشيعي، والهندوسية والمسيحية والفارسية والقاديانية - إلى أن يصبح من الممكن أن ندعوهم جميعاً وعلى قدم المساواة (باكستانيين). لابد وأن يكون هذا هو الهدف النهائي، والخطوة الأولى على طريق النضال المتعرج نحو إنقاذ باكستان.
إنها لفكرة وطنية تستحق النضال - ولابد وأن يكون مفكرو باكستان ونخبتها وشبابها في طليعة المعركة. لقد ألقى الهلال بظله اللانهائي على طول باكستان وعرضها. وكل ما تعانيه باكستان من مآس وإخفاقات يعود إلى ما يرتكب باسم الدين والعقيدة، وليس باسم جناح. ولكي ننقذ باكستان فلابد من تجديد روح جناح وأفكاره، ويتعين على أهل باكستان في النهاية أن يسألوا أنفسهم ماذا تعني باكستان حقاً.
مهندسة ومصممة معمارية وكاتبة باكستانية؛ راكيش ماني زميل مبادرة (تعليم من أجل الهند).
خاص «الجزيرة»