يلاحظ أن التسارع في تحديث الأنماط الفكرية، والعادات اليومية، وأشكال ممارسات الحياة والتفاعل مع مكوكية حركتها في مجتمعات العالم البشري قد أخذت تتغلغل في أنسجة المجتمع، ولم تعد هناك مألوفات في التفكير حولها، فكل مألوف عرضة للغربلة، وكل عادة قابلة للتبديل، وكل ثقافة قيَمية مرهونة الآن على طاولات البحث في والعمل على تغييرها, ومعدة المحاريث التي تعمل على اجتثاثها ومن ثم استبدالها ببذور هي الآن تحت مظلات المحميات التي يحرسها ويستعد لحملها ومن ثم بثها في تربة المجتمع كل من يقول: إن مجتمعنا العربي لابد أن ينفتح على كل جديد ويتطعم بكل حديث ويبدل ثوبه التقليدي بثياب تحسر عن المخبوء فيه، وتتيح لسفرة الوجوه أن تلتقي بوجوه العالم الملونة، ذلك لأن تيارات التغيير قادمة وقد شقت لها الدروب وتعد لها المسارب. وهذا شأن كل مرحلة مفصلية تمر بحقب المجتمعات في تطويرها. وأذكر تلك المعركة حامية الوطيس التي نشبت بين كتابنا ونحن على مقعد التلقين الأولى لا نزال نحاول أن نقوم لثغة ألسنتنا، تلك المعركة بين العصرنة والتحديث، ونزول كل ذي قلم للدلو برأيه بين مفهومي الحداثة والمعاصرة، ولم ترجح كفة أي منهما لأن الكفتين كانتا مليئتين بقناعات كل فريق دون أن يكون هناك منفذ لتنازل أو تراجع أو حتى نقطة لقاء بينهما، وإن لم تخني الذاكرة فإن أكثر المعارك الفكرية لم تثمر. الآن هناك مع كل هذا الإقبال على التحديث وقبول التغيير والقناعة بلبس أزياء فكرية بمثل لبس أزياء الثياب الخارجية بمثل ما يحذو النقاد في مناهجهم والمبدعين في أشكال إبداعاتهم، والطباخون في ألوان أطباقهم، ورجال الأعمال والساسة في تجديد آليات تنفيذهم، إلا أن الحجرة تُعَثِّر الإقبال تحديداً على ما يطرحه شعراء الجيل الراهن من أشكال لقصيدهم ليست تتبع السابقين ولا تلحق بمن بعدهم، وقائمٌ الصراع بينهم وبين قبول الشكل الخارجي لشعرهم كقبول كل شكل تعرض في الحياة للتغيير، على الرغم من أن الأفكار الجديدة التي يتناولون طرحها في كتاباتهم تنم عن فهمهم العميق أكثر بحياتهم الحديثة وبأفكار جيلهم بل منهم المثقفون الذين يتابعون الجديد وينهلون منه بوعي..
فلماذا عجلة التغيير عبرت بكل أمر لإنسان هذه المجتمعات العربية، لكنها توقفت به أمام طموحات شعراء هذا الجيل القادر الوحيد على بناء مرحلته والتأثير فيها بأكثر مما سيفعله المخضرمون الذين مهما بلغت بهم حركة الخروج عن أثوابهم إلا أنها لن تهزم جذوراً متعمقة في المناطق الخفية فيهم، تلك التي تجعلهم وستبقيهم في صراع خفي بين التبديل والموروث, في الشأن الحياتي كله بما فيه منطقة الإبداع وتحديداً الشعر؟ ألا تشرع النوافذ لأصحاب الوقت ليصنعوا آثاره ويبنوا شجرتهم التي ستأوي ظلالها كل من يعبر غداً بها..؟ آن لنا أن نؤمن بأن لكل زمان أهله.. ولكل مرحلة إبداعها ومبدعوها.