الرواية التي تقرأ في خمس أو ست ساعات، خلفها عمل مستمر قد يأخذ من المؤلف أعواماً، قصيدة الشعر، القصة القصيرة، المسرحية، الأوبريت، كلها أعمال إبداعية، تأخذ ساعات أو أيام أو سنين، حتى تستوي وتقدم للناس، هناك من يقرأ النص وهناك من يأخذ منه سطراً أو سطرين، وهناك من ينشره في كتاب مجاناً، بل ربما أخذ عليه أجراً من المبدع لكي يقدم ما قدم، يحتاج عزلة كاملة، معاناة لا يعلم حدها إلا الله ومن يعيشون حوله، سهر، أرق، ملل، عصبية، هي حالة قد تكون دائمة أو مؤقتة يعيشها المبدع، وفوق ذلك فإن هذا غالباً ما يكون فقيراً، قليل التعليم، بدون وظيفة، وهو لا يقتات على المال، بقدر ما يقتات على الكلمة، الكلمة الجميلة أو المادحة، حتى الكلمة الفادحة أو الناقدة، قد تشعره بأن من هناك من قرأ، هناك من صوب خطه العام، أو لغته، أو أسلوبه، الفرحة تأتي من مجرد قراءة النص، تخيل إلى أي درجة يبحث المبدع عن الكلام أي الكلام يشعره بأنه موجود معترف به!
ما يعانيه الكاتب المبدع، يعانيه الممثل خلف البلاتوه وفي مواقع التصوير الخارجية، وهي معاناة لا حدود لها، أمور لا يعرفها إلا العاملون في هذا الحقل، رجالا ونساء، مقابل أجر قليل أو كثير، أو كلمة حلوة، أو مقال، أو جمهور يقابل الفنان على باب السينما أو المسرح، أو يتواصل معه، يشعره أن جهده وجهاده محل عناية واهتمام. تقول الفنانة (هند رستم) حين سئلت عن اعتزالها المبكر للتمثيل (اعتزلت وعمري 42 سنة) كنت أريد أن أقول كفاية! لقد أعطيت الفن ما يكفي وأريد أن أعيش حياتي في شكل صحيح، كنت أريد أن أكل، فقد كنت قريباً محرومة من الأكل، وخاصة الحلويات والشوكولاته حفاظاً على وزني وكنت أضع الميزان في غرفة نومي وأتابع وزني قبل النوم وعند الاستيقاظ، كنت أريد أن أسافر فلا أستطيع، منعني حبي للفن من أن أعيش حياتي (....) الحياة الفنية عموماً فيها قسوة و99% من فناني مصر يضعون نظارات لتأثير الإضاءة والعمل الصعب على عيونهم! لكن بعض هؤلاء الفنانين والمبدعين لا يملكون شجاعة (هند رستم) فيغرقون حين فشل أحد أعمالهم، في القلق والاكتئاب والابتعاد عن الناس، بل إن بعضهم يضعون حداً لحياتهم وكأنهم يعاقبون أنفسهم على فشلهم في توصيل فكرتهم أو أدوارهم أو إبداعهم بالصورة التي يريدون للناس!.
هذا الإبداع المتماسك قد يكون خلفه مبدع أو ممثل يعاني من العديد من الأمراض، خاصة تلك التي لم يسلم منها مبدع واحد، مثل القلق والاكتئاب. إن العمل المتماسك قد يكون رداً على فوضى داخلية يعاني منها المبدع، كما هو حال دستوفيسكي وهمنجواي وحي دي موبسان وغيرهم وقد يكون خلفه شخص منظم يحسبها بالورقة والقلم كما هو حال مبدعين مثل فيكتور هوجو الذي كان شعاره (سطر واحد كل يوم!) أو نجيب محفوظ الذي لم يخلف موعده مع الورق والقلم منذ عرفه الناس وحتى رحل عن دنيانا مخلفا إرثا من القصص والروايات والسيناريوهات!
لكن مشكلة المبدعين الحقيقية ليست مع عامة الناس أو منهم، فهو من هؤلاء الناس منهم وإليهم، مشكلة المبدع الحقيقية في حساسيته الفائقة، التي كما يقولون ترى الكوارث قبل وقوعها وليس لديها من أداة الدلالة على ما تحس به سوى التعليم، وهو غالباً لا يبني برجا ولا يقيمه، هنا تبدأ مأساة الفنان، ومأساته دائماً خاصة، داخلية، تنتهي بالموت أو الانتحار أو العزلة، هناك هيئات ودول تحاول تخفيف ذلك عن الفنان فتقدم له الدعم المادي والمعنوي، لكن هناك من جهة أخرى من يقذف عليه الطوب، المزيد من الطوب!
فاكس: 012054137