تتنوع مشارب القراء فيما يطرح أمامهم وتتباين رغباتهم، ولذا فإن الكاتب عليه أن يراعي تطلعات الأفئدة فهو لا يكتب لأحد بعينه وعليه أن يجهد نفسه في تلمس أوتار القلوب وما يرضي الأذواق.
ومن هذا فإن كثيراً من القراء، حسبما عبروا عن رغباتهم، بأنهم يتابعون القصة التي أختم بها المقال، أو عندما يكون في المقال: مواقف وحكايات.
ومن هنا كنت أحرص بانتقاء القصص التي أتوقعها مرضية لذوق وحاسة هذه الفئة حسب الإمكان، فأتنقل بين الكتب تلمساً لما يهم فئة من القراء للمتعة أو العظة أو التسلية.. وفي بحثي وجدت عند الأستاذ الكبير عبدالكريم الجهيمان في كتابه الأمثال الشعبية في الجزيرة، قصة واقعية، كما قال المؤلف، قصَّها أحدهم على جلالة المغفور له - إن شاء الله - عبدالعزيز آل سعود.. على أن يحكم لأيهما - يعني بطلي القصة: المصري أو الحجازي - أكثر وفاء.
وفي نهاية القصة نذكر ما بينه الأستاذ الجيهمان فيما ظهر له عن حكم الملك.. إذ في هذه القصة: طرافة ووفاء.
لكن نقول للقارئ: ما رأيك وأنت تسير مع مجريات هذه الحكاية: أيهما أكثر وفاء.. يقول الأستاذ الجيهمان: هذه قصة واقعية، أحد بطليها من الحجاز، والآخر من مصر، وخلاصتها: أن ثرياً من أثرياء الحجاز، كتب إلى ثري من أثرياء مصر ليبعث إليه بعض البضائع، وبعث التاجر المصري بعض البضاعة، فباعها الحجازي وبعث إليه ثمنها كاملاً، فازدادت الثقة بين التاجرين وكثرت المصالح بينهما. وداما على هذه الحالة عدداً من السنين، ثم عزم المصري على الحج، وكتب لعميله التاجر الحجازي برغبته، وسوف يتوجه في الباخرة الفلانية، وطلب من زميله أن يعد له منزلاً مناسباً، فرحب الحجازي وفرح برؤية عميله، حيث لم ير أحدهما الآخر، وإنما تعارفهما وتعاملهما بالمراسلة.
استأجر الحجازي بيتاً جميلاً وأثثه بما يناسب صاحبه بكل ما تتطلبه حياة هذا الثري، ورتب الخدم والحشم، وبكل شيء يطلبه هذا الثري إمعاناً في إكرامه، وفي الموعد ذهب الحجازي لاستقبال عميله، والتقى الاثنان وتعارفا، واكرم الحجازي وفادة صاحبه المصري، وأوصله منزله المهيأ، وصار يرافقه ويقوم بشؤونه ولا يكاد يفارقه ليلاً أو نهاراً إلا ما ندر.
وبعد مضي مدة لاحظ التاجر الحجازي أن حالة صاحبه تنقص وتسير من سيئ لأسوأ، فكتم أمره وسببه، لكن الحجازي أصر على أن يخبره: فإن كان مرضاً عالجناه، وإن كان لأمر من الأمور، حاولنا إزالة ما يزعج بقدر ما نملك.
فقال: كنت أمشي في بعض شوارع المحلة، وبصرت بامرأة من أحد النوافذ تطل على الشارع، فسحرتني بجمالها، وتعلق قلبي بها، وصارت هي مجال تفكيري ليلاً ونهاراً، ولا شك أن حالي هو من أسباب تعلقي بهذه المرأة، وأنا أرغب الزواج بها، مهما كلفني ذلك من مال.
فقال له زميله الحجازي، اطمئن وثق أنني سوف أنالها لك، لكن الذي أريد منك، أن تريني البيت الذي رأيتها فيه.
فذهب التاجران، وعندما أقبلا على قصر من قصور التاجر الحجازي، وقفا عنده، قال التاجر المصري: إنني رأيتها تطل من هذه النافذة، وإذا هو بيت زميله الحجازي، والتي رآها تطل هي ابنة عم التاجر الحجازي تزوجها حديثاً عن هوى ومحبة، ولما كان أغنياء الحجاج يمكثون في مكة، عندما يحجون مدة طويلة.
فقد قال التاجر الحجازي لزميله المصري: لقد انحلت المشكلة واعتبر أن الموضوع سوف ينتهي على ما تحب، فأكمل مناسكك وحجك وفي هذه الأثناء سوف أكون هيأت الأمور على ما تحب، وسوف تجد الأمور مهيأة قبل مغادرتك مكة.. وذهب الرجل إلى ابنة عمه، وأخبرها بالقصة. وقال لها: إنه لابد من طلاقها، وتزويجها بالتاجر المصري بعد نهاية العدة.
فأرادت أن تمانع، فقال: إن هذا شيء لا بد منه، وإذا كنت تحبينني، وتفين لهذا الحب، فاقبلي هذا الواقع، فقبلت ابنة عمه هذا الأمر على مضض وطلقها واستعدت، وعندما أكمل التاجر المصري مناسك حجه، كان التاجر الحجازي قد هيأ جميع مراسم الزواج، لكن التاجر المصري أحب أن يكون الدخول بها في مصر، فعقد له عليها، ثم ذهب بها معه.
وعندما وصل إلى مصر هيأ مراسيم الزواج هناك ودخل بها، وعندما أصبح الصباح - أو بعده بفترة - قال لها يا فلانة: اطلبي أي شيء تريدينه في بداية حياتنا الزوجية، فقالت أخشى أن لا تجيب طلبي؟ فأعطاها العهود والمواثيق أن يعطيها أي شيء تطلبه، فقالت: أريد أن تهبني لفلان - تقصد زميله الحجازي، وزوجها وابن عمها، وكان المصري لا يدري أنها زوجته، كما أنه لا يدري أنها ابنة عمه، وإنما اتهمها أن بينها وبينه علاقات غرامية سرية، فغضب وشاحت نفسه، طلقها ثلاثاً وأعادها إلى الحجاز معززة مكرمة برفقة واحد من أبنائه.
وعندما رجعت إلى أهلها جاء إليها زوجها الأول وسألها عن جلية الأمر، فأخبرته خلالها على عملها، ولكنها قالت: إنها لا تطيب لها الغربة، ولا يطيب لها عشرة أحد غير ابن عمها، وما دام عرض عليها أن تطلب فهذا هو أعز شيء لديها يمكن أن تطلبه.
وعاد التاجر الحجازي إلى ابنة عمه، وانكمش التاجر المصري عن التاجر الحجازي، وصار لا يرسل له شيئاً وانقطعت المعاملة بين التاجرين، وكانت بلاد الحجاز في قلاقل وفتن ما بين الأشراف والأتراك.
وذهبت بضاعة التاجر الحجازي، ولم يبق له من الدنيا إلا ابنة عمه، وعندما رأت ما هو فيه، من الضيق والفقر والحاجة، بعد العز والجاه والمال، قالت له: لماذا لا تسافر إلى مصر، وتزور صديقك التاجر، وتشرح له أوضاعك، لعله ينتشلك مما أنت فيه، ففكر في الأمر ملياً، ثم وافق على السفر وشد رحاله إلى مصر.
فوصلها وسأل عن صديقه، فدل عليه، وجاء ليدخل فمنعه الحارس، وقال له: من أنت؟.
فقال: أنا رجل من الحجاز، فذهب الحارس وأخبر سيده.
فقال: ائذن له: فلعله يعرف أخباراً عن صديقنا فلان.
فدخل عليه، وكان الفقر والحاجة والسفر، قد غيرت من وضعه وسحنته، فلم يعرفه التاجر المصري، وقال له: هل تعرف صديقي فلان؟ قال: نعم. فقال: كيف حاله وما أوضاعه؟ وعندما جاء ليشرح له حال صديقه لم يتمالك نفسه.. فبكى.
فأدرك زميله التاجر المصري أنه هو صديقه، وزميله القديم الحجازي.
فقام من مكانه وعانقه عناقاً حاراً، ورحب به أجمل ترحيب وسأله عما صير حاله إليه، كما سأله عن زوجته المطلقة.
فقال: إنها ابنة عمي، وكانت زوجتي، ولكنني عندما رأيت ما أصابك بسببها طلقتها لأؤثرك بها عن نفسي، وعندما خرجت من العدة، عملت الأسباب مع عمي لتكون زوجة لك.
فتعجب التاجر المصري من هذا الإيثار.. وقال له: إننا سنعمل لك احتفالاً يليق بمقامك، ولنوفيك بعض جميلك.
فاذهب الآن مع الخادم إلى الحمام، واغتسل والبس لباساً يليق بك، وكان قد أمر بأن يهيأ له سكناً مناسباً، ولباساً يتلاءم مع مكانته عنده.
ثم استرح ثلاثة أيام حتى يكون بعدها الاحتفال.
وفعلاً صار هذا فتنظف الرجل ولبس من أفخر اللباس واستراح هذه المدة، حتى رجعت إليه بعض حاله وشعر بالحياة وبقيمته فيها.
ودعا التاجر كبار التجار لهذه الوليمة، وعرفهم بالتاجر الحجازي، ومكانته الرفيعة في بلده، والمعاملة النظيفة التي كان يعامله بها.. فرحب به التجار.
وصار هؤلاء التجار يتسابقون على الاحتفاء به وإكرامه، وإقامة الحفلات تلو الحفلات، لإظهار الفرح والسرور بقدومه، ولمكانته عند صاحبهم.
وعندما انتهى دور الإكرام، شرح التاجر الحجازي لصديقه، ما هو فيه من ضائقة مالية، فقال: سوف ترى.. ثم دعا التاجر المصري أولاده، وقال: هل تعرفون هذا؟ فسكتوا فقال: إنه شريكي في جميع ما اتمتع به من ثراء واسع، والآن أخبركم أنني سوف أقاسمه جميع ما لدي من الأموال الثابتة والأموال المنقولة، فوافق الأبناء على رأي أبيهم، وأحصيت الأموال جميعها وقاسمه إياها وحملها على أحد المراكب وعاد بها إلى أهله ووطنه، فرحاً مسروراً.
بعد هذا قال الأستاذ عبدالكريم الجهيمان: هذه قصة واقعية، قصها أحدهم على جلالة الملك - المغفور له إن شاء الله - عبدالعزيز آل سعود، على أن يحكم لأيهما أكثر وفاء، وعقَّب بقوله: والذي يظهر أن جلالة الملك حكم للتاجر الحجازي، لأنه آثر زميله على نفسه، في أحب الناس إليه وهي زوجته، وابنة عمه - وهو البادئ في الإيثار مع مكانتها في نفسه، ومكانته عندها.
والإيثار في مثل هذه الأمور، لا يعدله أي إيثار مادي، مهما بلغت قيمته ومقداره، فقد ضحى كثير من العظماء بعروشهم ومراكزهم، وثرواتهم في سبيل العاطفة والحب.
(الأمثال الشعبية لعبد الكريم الجهيمان 2: 209 - 212).