(من حصلت له ملكة في صناعة قلما أن يجيد بعدها ملكة أخرى) ومثال ذلك الخياط إذا أجاد ملكة الخياطة وأحكمها، ورسخت في نفسه، فلا يجيد من بعدها ملكة النجارة أو البناء، إلا أن تكون الأولى لم تستحكم بعد ولم ترسخ صبغتها. والسبب في ذلك أن الملكات صفات للنفس وألوان، فلا تزدحم دفعةً.
ومن كان على الفطرة كان أسهل لقبول الملكات وأحسن استعداداً لحصولها.
فإذا تلونت النفس بالملكات الأخرى وخرجت عن الفطرة ضعف فيها الاستعداد باللون الحاصل من هذه الملكة، فكان قبولها للملكة الأخرى أضعف.
وهذا بيّن يشهد له الوجود، فقل أن تجد صاحب صناعة يحكمها ويتقنها، ثم يحكم ويتقن من بعدها أخرى، ويكون فيهما معاً على درجة واحدة من الإجادة، حتى إن أهل العلم الذين ملكتهم فكرية فهم بهذه المثابة، ومن حصل منهم على ملكة علم من العلوم وأجادها في الغاية فقل أن يجيد ملكة علم آخر على نسبته، بل يكون مقصراً فيه إن طلبه، إلا في الأقل النادر من الأحوال.
ومبنى سببه على ما ذكرناه من الاستعداد وتلوينه بلون الملكة الحاصلة في النفس. ومما سبق يتضح أن ابن خلدون يرى أن العمران (المجتمع) يقوم على التخصص في العمل، ولهذا قسم العمران إلى عمران بدوي وعمران حضري، وما ذلك إلا لاختلاف طبيعة أعمالهم ويقول في ذلك: (اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش، فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله، والابتداء بما هو ضروري من قبل الكمالي).
ويؤكد ابن خلدون على أن من فوائد التخصص في العمل لدى صاحب الصنعة هو إتقانه لها.
كما تنبه إلى مسألة مهمة كون التخصص في مهنة إنما يستجيب لميول الأفراد ومواهبهم ورغباتهم، كما يربط بين وجود تقسيم العمل وتعدده وتنوعه في مجتمع ما وبين نمو العمران البشري.
وأن تقسيم العمل إنما هو وليد الحاجة الاجتماعية التي تعتبر في نظره أساس العمران البشري. والواقع أن فكر ابن خلدون يمثل نموذجاً نظرياً يقوم على التفكير العلمي الواقعي خلال القرن الرابع عشر الميلادي، حيث انتقد موقف الفلاسفة السابقين ومنهجهم في المعرفة، ودعا إلى تلك المعرفة اليقينية الواقعية التي يمكن الوصول إليها بالملاحظة والمشاهدة، والتي نستطيع أن نجد فيها وقائع يمكن البحث عن تحقيقها وبرهانها، ويمكن الكشف عن عللها.
وينظر إلى التخصص بما يخص الأفراد على عكس العلماء الذين ينطلقون من البناء الاجتماعي، أمثال:
1- أوجست كونت:
ويرى أن التخصص وتقسيم العمل كانا عاملاً مهماً في تعقد الحياة الاجتماعية، كما أنهما نتيجة لزيادة الكثافة السكانية في المجتمعات، وأكد كونت على أن مبدأ التعاون والتضامن والاعتماد المتبادل بين كافة شرائح المجتمع من أجل تحقيق أهداف مشتركة هو ما ينشئ نظام تقسيم العمل الذي تدعمه قيم وعواطف مثل الإيثار وحب الغير..، وكل ذلك يؤدي إلى تماسك المجتمع.
2- هربرت سبنسر:
وتتضح رؤيته لتقسيم العمل من خلال نظريته عن التطور الاجتماعي، الذي يماثل فيها بين المجتمع والكائن العضوي، فكلاهما يزداد حجمه وبالتالي درجة تعقده التي تتمثل في الأنشطة التخصصية، كما أنهما يقومان على أساس الاعتماد المتبادل بين الأجزاء.
ويرى سبنسر أن التخصص وتقسيم العمل كانا في المجتمع الأولي البسيط، ثم في المجتمع الزراعي، ثم في المجتمع الصناعي الحديث الذي أخذ التخصص وتقسيم العمل فيه أعلى مستويات الدقة والتنظيم.
وقد حلل سبنسر التخصص وتقسيم العمل من خلال تقسيمه للمجتمع إلى نمطين: (حربي، وصناعي). وينتهي سبنسر إلى أن تقسيم العمل يؤدي إلى التوازن الاجتماعي.
3- دوركايم:
يعتبر دوركايم من العلماء الذين اهتموا بظاهرة تقسيم العمل، وقد وضع كتاباً متخصصاً بعنوان: (تقسيم العمل الاجتماعي) تناول فيه تحليل ظاهرة تقسيم العمل وأهميتها في الحياة الاجتماعية قد طرح فرضاً أسياسياً مؤداه: أن التماسك الاجتماعي يقوم على نظام تقسيم العمل في المجتمع، وإنه كلما تزايد التماثل في مظاهر تقسيم العمل كان بناء الأدوار أقل تعقيداً، مما يؤدي إلى ارتفاع التماسك الاجتماعي. ومع ارتفاع الكثافة السكانية في المجتمع يزداد تقسيم العمل مما يؤدي إلى ضمور التماسك الاجتماعي.
وقد ناقش دوركايم ظاهرة تقسيم العمل عندما قسم التماسك الاجتماعي إلى نمطين:
أ - تماسك آلي: ويسود في المجتمعات التقليدية التي يتضاءل فيها تقسيم العمل، ويكون التماسك فيها قوي ويقوم على رابطة الدم.
ب - تماسك عضوي: ويسود في المجتمعات الصناعية الأكثر تقدماً، ويتعقد فيها نظام تقسيم العمل، مما يؤدي إلى انخفاض التضامن الاجتماعي.