تمر الأمم بمراحل ضعف في مسيرتها التاريخية كما تمر بمراحل قوة. وقد يكون الضعف نتيجة أسباب مادية، كما قد يكون نتيجة أسباب معنوية. وقد يتغلب على الأسباب المادية بالإيمان الراسخ والإرادة القوية والجهد المخلص.

لكن من الصعب جداً التغلب على الأسباب المعنوية، التي تتمثل في فقدان هذه الصفات الثلاث، أو ضعفها إلى درجة كبيرة. ومن يتأمل أوضاع أمتنا العربية بالذات يجد أن بعض أقطارها، أو أكثرها، قد حققت الكثير من مظاهر الحضارة المادية؛ بنايات مشيدة، وتكديس أسلحة متنوعة، وما جد من صناعات رفاه لم تسهم أي إسهام فيها باستثناء تهافتها على شرائها ليزداد عدد العمال الذين يعملونها في بلدانهم المتقدمة.

لكن هذه الأمة - في أكثر أقطارها - لم تستطع خلق مواطنة في داخل القطر الواحد منها؛ ناهيك عن تنمية شعور عام لكل أقطارها، ولم تزرع في نفس الفرد ما يطمئنه على حاضره فما بالك عن مستقبله ومستقبل أولاده؟

وفي مقابل ما تحقق من إنجازات مادية ضعفت - إن لم يقل تلاشت - قوى معنوية مهمة. فلم يعد الإيمان بقضايا الأمة هو الإيمان الراسخ، ولم تعد الإرادة هي الإرادة، كما لم يعد الجهد المبذول هو ذلك الجهد المخلص؛ سواء على مستوى أكثر القيادات أو على مستوى أتباع هذه القيادات. فأصبحت الخسارة أفدح ما تكون.

في عام 1956م ارتكب العدوان الثلاثي على مصر مكونا من الكيان الصهيوني وبريطانيا، التي مهدت أساسا الطريق لقيام ذلك الكيان على أرض فلسطين، وفرنسا رأس النفاق بادعاء الحرية. ومع أن عدداً من أقطار أمتنا كانت حينذاك خاضعة لاستعمار مباشر فإن زعماء العرب عموماً كانوا يداً واحدة ضد ذلك العدوان؛ إضافة إلى إجماع أتباعهم على الوقوف مع مصر بمختلف الوسائل. وكان ذلك الوضع مصدر قوة فرض نفس؛ لا على الصمود أمام الأعداء فحسب؛ بل كان من بين عوامل أخرى شجعت الرئيس الأمريكي، إيزنهاور، على أن يتخذ موقفا حازما أرغم قادة الصهاينة على الانسحاب من الأراضي التي احتلوها نتيجة العدوان التآمري المذكور.

ذلك الموقف الأمريكي المقدر كل التقدير كان موقفا يكاد يعد فريدا في العلاقات بين الصهاينة والإدارات الأمريكية. وكم يتمنى المرء لو اتخذ مثلا يحتذى به كل من لديهم النية الحسنة والقوة الكافية على اتخاذه.

ما الذي حدث بعد ذلك العدوان الثلاثي إلى أن أصبحت أمتنا على ما هي عليه الآن؟ الجانب العربي استقلت رسميا تلك الأقطار التي كانت تحت استعمار مباشر. لكن مظاهر التضامن والتعاضد؛ بل وتجليات الوحدة أو الاتحاد، التي كانت واضحة كل الوضوح حينذاك، حلت محلها مظاهر التنابذ والتنازع؛ بل وبروز تفكك وطني إقليمي. ولا شيء يوهن الأمة مثل هذه الأمور. كان القطر، الذي رماه سوء حظه بوجود قاعدة عسكرية فيه ينظر إليه نظرة ازدراء، فأصبحت توجد أقطار تتنافس على دعوة جهات أجنبية معروفة العداوة لأمتنا لتقيم قواعد عسكرية فيها. واللغة التي كان يفتخر بها جامعة لأمتنا أصبحت النظرة إليها نظرة دونية؛ بل أصبح يفضل عليها عمليا غيرها في جزيرة العرب مهد هذه اللغة ومهبط الوحي الذي أنزل بلسان عربي مبين. كل هذه الأوضاع لا تشجع غير العرب على احترامهم ومساندة قضاياهم. ومن لا يحترم نفسه لا يحترمه الآخرون.

وماذا عن الجانب الصهيوني بعد العدوان الثلاثي عام 1956م؟

في ذلك العام كان من بين زعمائهم؛ بل من كان له الصدارة فيهم، بن غوريون وهو من هو دهاء. ومن بينهم أبا إيبان وهو من هو ثقافة. كانوا أعداء شرسين مجرمين، إن لم يكونوا قاموا مباشرة بارتكاب مجازر فقد شاركوا في ارتكابها بطريق غير مباشر. لكن من الصعب مقارنتهم؛ وبخاصة في مجال الثقافة، لمن أصبحوا حكاما للكيان الصهيوني الآن. فرق بين أبا إيبان، أستاذ الأدب الإنجليزي في الجامعة؛ وزير خارجية يعرف كيف يخدع بكلام المثقف وليبرمان، حارس الملهى في روسيا؛ وزير خارجية يهدد بكل وقاحة دولة وقعت اتفاقية سلام مع الكيان الإسرائيلي بتهديم السد العالي فيها.

في عام 1956م، حين اتخذ الرئيس الأمريكي، إيزنهاور، الموقف الذي اتخذه كانت أكثر دول العالم - وبينها دول أوروبية كإسبانيا واليونان - لا تعترف بشرعية الوجود الصهيوني على أرض فلسطين. أما الآن فدولة عظيمة غير غربية؛ مثل الهند، لا تكتفي بهذه الشرعية غير الشرعية عدلاً، وإنما تقيم مع الكيان المذكور صناعة مشتركة. لكن من يلوم الآخرين وقد أصبحت دول عربية متعددة تقيم علاقات كاملة مع هذا الكيان، أو تقيم معه علاقة في جانب من الجوانب، بل تحولت المقاطعة الاقتصادية إلى مشاركة اقتصادية لدى بعض هذه الدول.

وفي غضون تلك الفترة، التي توالت فيها أحداث جسام ورزايا كبيرة، أنشأت دولة الصهاينة أسلحة دمار شامل كادت تستعملها في حرب 1973م - كما ورد في مذكرات جولدا مئير، التي كانت رئيسة وزراء تلك الدولة أيام هذه الحرب - لولا أن جاءها الغوث بتدخل من لم يكن مؤهلا للتدخل في مجريات المعركة، فأدى تدخله إلى إتاحة فرصة لشارون كي يقود فرقة من الجيش الصهيوني أصبحت محاصرة لفرقة مصرية غربي قناة السويس. وكانت النتيجة كما هي معروفة لكل المتابعين للأحداث.

وفي غضون تلك الفترة، أيضا، كان ما كان من نجاح للصهاينة كبير تمثل في إخراج مصر العظيمة بشعبها وتراثها من ميدان المواجهة مع الكيان الصهيوني. وفي محادثات كامب ديفيد، التي أدت إلى ذلك كان حجم ضعف الإرادة أقسى من أن يتحمله وزير خارجية مصر، فاستقال من منصبه شريفا في أثناء تلك المحادثات تاركا المجال للتهامي كي يفعل تأثيره ما فعله. بل إن الرئيس الأمريكي، كارتر، نفسه لم يستطع أن يحد من تهاوي إرادة المفاوض المصري الكبير أملا منه في أن يتوصل إلى نتيجة يرضى بها أكثر زعماء العرب.

وفي أوسلو أكل الجانب الفلسطيني الطعم الصهيوني ليصبح من بنود اتفاقية أوسلو ما يجعل من القوة الفلسطينية، التي كان يؤمل أن تكون قوة تحرير للأراضي المغتصبة، قوة حرس للكيان الصهيوني ضد أي مقاومة لهذه الأرض المغتصبة. وكان من نتائجها مزيد من التهويد، ومزيد من الإذلال، إلى أن أصبحت بكل شؤمها مرتكزا لكل ما تلا من تنازلات وفرض حلول ضد مصلحة الفلسطينيين؛ أنفساً وأرضاً وتراثاً.

هكذا - إذن - هي بعض أمتنا، التي أصبحت واضحة كل الوضوح. فهل هناك أمل في الخروج من هاوية هذا الوضع المهين. كان وضع أمتنا، عام 1956م، مما ساعد رئيسا أمريكيا قويا على اتخاذ موقف قوي يليق بدولة عظمى ضد عدوان صهيوني متعجرف، فهل وضع أمتنا الآن مما يساعد رئيسا أمريكيا ذكيا ألمعيا موقفا مثل موقف ذلك الرئيس؟