توقفت عند الحكمة القائلة: (ليس المهم أن تكثر المصابيح من حولك، ولكن المهم أن يكون بينها مصباح يضيء)، وتأملت المعنى العميق في هذه الحكمة البديعة، وخطرت ببالي عشرات الصور التي أراها مباشرة أو عبر وسائل الإعلام أو في المؤتمرات والمهرجانات العامة لعشرات العلماء الذين يحملون العلم بين جوانحهم، وتستوعبه عقولهم، ويتحدثون في مجالاتهم وتخصصاتهم كأحسن ما يكون الحديث بياناً وإيضاحاً، ومحاورة ومناقشة، ثم وازنت بين هذا العدد الكبير من (العلماء) في هذا العصر، وبين آثارهم المباشرة في واقع الحياة، فوجدت أن معظم تلك الصور سرعان ما تتهاوى في واقع التطبيق العملي، والأثر الإيجابي الملموس في المجتمع الذي يعيشون فيه.
|
العالم منبع عطاء، ومصدر ضوء يهدي السالكين، وصوت حق لا يعرف المجاملة والمجاراة على حساب العلم الذي تعلمه، وضمير حيٌّ لا تميته مظاهر الدنيا الزائلة، ويد حانية تمسح العناء عن قلوب التائهين في دروب الجهل والأمية، أو في سراديب الهوى والشهوة، أو في أنفاق الشبهة والبدعة والضلال. فإذا لم يكن العالم نبراساً يضيء، فماذا أفاد من علمه إذن؟ وما قيمة هذا العلم المخبوء في عقله الذي لا ينزل إلى واقع الحياة من خلال سلوكه وتعامله مع الناس؟؟ هنالك علماء كثر تزخر بهم ساحات العلم في هذا العصر، ولكنك لا ترى لهم في الإصلاح والتوجيه وخدمة الناس أثراً، ولا تسمع لهم ركزاً، وهؤلاء العلماء ذوو مشارب مختلفة، ولكنهم يتفقون على تعطيل علمهم عن الناس إلا بمقدار ما ينفعهم في أمور الدنيا، ويحقق لهم الشهرة والوجاهة، وما يتبعها من لذّة الحياة العابرة التي لا تدوم.
|
علماء مع وقف التنفيذ، علمهم غزير، ومعرفتهم كبيرة، وثقافتهم منوعة، ولكنهم عن التوجيه معزولون، وفي النصيحة الهادفة مفرطون، وبما ترى أعينهم من انحراف وفساد في مجتمعاتهم متهاونون، وفيهم من يعلل لهذه السلبية بقوله: لقد تغير الناس، فما عادوا يقبلون توجيها، ولا يسمعون نصيحة، وهو تعليل غير صحيح، فالقبول موجود إذا صلحت النية، وحسن الظن، واحتسب العالم إرشاده وتوجيه وتعليمه عند ربه.
|
العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر كما أخبرنا أفضل الخلق، معلم العلماء عليه الصلاة والسلام.
|
لقد أصبح العلماء المتهاونون بدورهم العلمي الكبير موضع انتقاد حاد من الشباب غير المستقيمين على منهج الشرع، وبعضهم يقول: كم من مرة يرانا عالم على حالة من الفوضى والمظهر الذي لا يليق شكلاً وهنداماً وسلوكاً، ومع ذلك لا نسمع كلمة نصح أو توجيه، مما يشعرنا بأن ما نحن عليه صواب لا مخالفة فيه، ويقول لي شاب جاور في إحدى رحلاته الجوية عالماً من العلماء: لقد فرحت بوجودي إلى جوار ذلك العالم، وكنت أجهز نفسي لحديث علمي مفيد، وكنت حاملاً هم مظهري الذي أعلم أنه لا يليق، من حيث قصة شعري، ورسم خطوط شاربي ولحيتي على أشكال هندسية لافتة للنظر، ومن حيث القميص (المزركش) و(البنطال الضيق جداً)، وخاتم الذهب الذي كان لامعاً في إصبعي، وهي مخالفات أعرفها تماماً، ولكن ذلك العالم الفاضل لم يحرك ساكناً، بل دخل معي في حديث عن عملي التجاري وكأنه لا يرى من مخالفاتي الظاهرة شيئاً، وقلت في نفسي، لعله يتألفني حتى اطمئن إليه ثم ينصحني، ولكن الرحلة انتهت، وودعني باسماً دون أن ينبس بكلمة واحدة تعبر عن عدم رضاه عن مظهري، ودون أن يطلب مني التواصل مستقبلاً، وحينما صرحت له بما في نفسي، ضحك قائلاً بالحرف الواحد: (هذا شغلكم يا شباب هذا الزمن وش نسوي لكم).كأني بهذا الشاب وغيره من شبابنا ذكوراً وإناثاً يرسمون علامة استفهام ضخمة أمام تهاون معظم العلماء بما يحملون من أمانة العلم، ومسؤولية الإصلاح في المجتمع، فماذا يقول أولئك العلماء؟
|
|
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم |
ولو عظموه في النفوس لعُظِِّما |
|