تردد في - الآونة الأخيرة - على مسامعنا عبارة (المسؤولية الاجتماعية), وهي تعني: دور الأفراد والقطاع الخاص والمجتمع المدني والتشريعات الحكومية في المساهمة في عملية التنمية المستدامة، من خلال غرز القيم الأخلاقية والإنسانية في المجتمع، والمساهمة في تحسين قطاعات..
....مختلفة، مثل: التعليم والصحة والبيئة.. إلا أن ملامح تلك العبارة لم تتحدد بعد بشكل واضح.. وخذ على ذلك مثالاً: فبعض الشركات والمؤسسات والبنوك التي دعمتها الدولة بشكل - مادي ومعنوي - لسنوات طويلة، في ظل الازدهار الاقتصادي والاستقرار المالي والأنظمة المحفزة، خصوصاً في عدم فرض الضرائب.. فتضاعفت أرباحها الضخمة، وانتفخت جيوبها، وفاضت من العوائد المادية، إلا أنها في المقابل لم تقدم سوى الشيء اليسير للمجتمع، كتقديم تبرعات نقدية - بسيطة جداً - لبعض الجمعيات الخيرية.. بل إن نسبة الشركات المسجلة رسمياً في المملكة والعاملة فيها، التي تطبق مبدأ - المسؤولية الاجتماعية - تصل إلى (21%) فقط.. أما باقي المؤسسات فلم تنذر نفسها للأعمال الاجتماعية، بل لا تزال في حدود الإعراب عن النوايا الحسنة فقط، وأخذت في ذر الرماد في العيون.. وأذكر جيداً أن أحد البنوك المحلية رفض أن يتنازل عن قرض لرجل أمن استشهد في المواجهات مع الفئة الضالة، وقامت الجهة المعنية بالدفع للبنك وفاءً للشهيد ولعائلته.
ولا يرقى الواقع الذي نعيشه - وللأسف - إلى مفهوم (المسؤولية الاجتماعية) عملياً، ولا إلى مستوى الرصيد من الإرث الإنساني والديني والقيمي، فهو دور غير ملموس، إذ لا تعدو كونها محاولات قليلة.. ويغيب هذا المفهوم لدينا بشكل واضح، إما لقلة الوعي فيما يتعلق بثقافة (المسؤولية الاجتماعية)، وإما لخلط مفهوم (المسؤولية الاجتماعية) بالتبرعات الخيرية، وأنها تدخل في مفهوم الزكوات والصدقات.. وهذا فهم خاطئ، (فالمسؤولية الاجتماعية) هي التزامات مستحقة على القطاع الخاص للمجتمع الذي تعمل فيه، لا علاقة له بمفهوم الإنفاق.
ومن أجل التأكيد على مفهوم (المسؤولية الاجتماعية لا بد من إدراج) (المسؤولية الاجتماعية) في مناهج التعليم، وهو التوجه الحالي والأول من نوعه على مستوى الجامعات السعودية - حسب علمي -، للبدء مرحلياً في إدراج مادة (المسؤولية الاجتماعية)، من أجل فتح أبواب جديدة نحو قضايا مهمة، لتثقيف الإنسان وتوسيع مداركه، وعرض التجارب الناضجة والعلمية لتعزيز مفهوم (المسؤولية الاجتماعية) لدى الجميع.
في ظني أن (المسؤولية الاجتماعية) باتت عنصراً مهماً من عناصر الارتقاء بالنهضة الاقتصادية في المملكة، فهي رسالة صدق وخدمة إنسانية، تهدف إلى تحسين حياة الناس.. ولذلك فوائد كثيرة، منها: تعزيز مكانة الشركات والمؤسسات وغيرهما لدى الجهات الرسمية، وتعزيز دورها للحفاظ على عملائها وجذب عملاء آخرين، والحفاظ على موظفيها المتميزين، وبناء الثقة بينها وبينهم لضمان مستقبل أفضل، وتوطيد العلاقات بينها وبين المجتمع.
إن الوعي المرتبط بمفهوم (المسؤولية الاجتماعية) لدى جميع أفراد المجتمع بمختلف طبقاته وشرائحه وطبيعة تكوين مؤسساته، والتأكيد على أهمية الشراكة الفعَّالة بين القطاعين - العام والخاص - للنهوض بمستوى المسؤولية الاجتماعية، والارتقاء بمستوى الأداء مطالب مهمة ولا شك.. ولا يكون ذلك إلا بوضع إستراتيجية وطنية (للمسؤولية الاجتماعية) تحت إشراف وزارة الشؤون الاجتماعية، لإعداد البحوث والدراسات الخاصة لدراسة احتياج المجتمع.. كما نتطلع إلى مبادرة تشمل برامج وندوات تثقيفية موجهة إلى كافة شرائح المجتمع توضح لهم مفهوم (المسؤولية الاجتماعية)، والدور الذي تلعبه في تحقيق الاستقرار، واعتبارها استثماراً اجتماعياً ناجحاً، ومساهمة مباشرة لمستقبل الوطن، من خلال بناء المجتمعات وصناعة الإنسان.. ومن صور ذلك: محاربة الأمية ونشر العلم، وتنمية الموارد البشرية عن طريق تدريب الشباب وتأهيلهم ودعم البحث العلمي وتوفير بيئة عمل ملائمة، والمساهمة في ترسيخ الهوية الوطنية، والارتقاء بمستوى المعيشة عن طريق مكافحة الفقر، ومواكبة التطورات الاقتصادية والتقنية.
إن من المهم الإشارة قبل نهاية المقال إلى مبادرة الرجل الثري في العالم (بيل جيتس)، الذي تنازل عن جل ثروته للمؤسسة الخيرية التي أنشأها، والتي تستهدف مواجهة الفقر والمرض في العالم الفقير، والإشادة بما حظيت به تلك المؤسسة من مساندة من أصدقائه أعضاء نادي المليارديرات، وفي مقدمتهم (ورن بافت) الذي قدم (37) مليار دولار دعماً للمؤسسة.
كم نحتاج لتلك الجهود اليوم في ظل غياب مفهوم (المسؤولية الاجتماعية) في مجتمعنا، ولا سيما أنها تقتضي الذهاب إلى أبعد مما يُطالب به النظام، من أجل المساهمة في الصالح العام للمجتمع، حتى ينعم بالازدهار والنمو الاجتماعي للأجيال القادمة، والسير نحو قضايا مهمة تُشكِّل منعطفاً حقيقياً في الحراك الاجتماعي النهضوي والتنموي بمختلف تطبيقاته الفعلية على أرض الواقع لإحداث التغيير الإيجابي.
drsasq@gmail.com