لم يكن تعليق الشيخ عايض القرني في الحوار الذي أجرته معه mbc حول قيام الفنان محمد عبده بغناء قصيدته (لا إله إلا الله) سوى مدخل لتبرير تحول جذري يلتقي فيه قطبان هما على النقيض في جوهر حضورهما الايديولوجي، ومن دون أن نلغي أهمية هذا الالتقاء ومغزاه في هذه المرحلة، إلا أن الشيء الأهم فيه، ليس هو في قيام مغن مشهور بغناء قصيدة لداعية مشهور، بقدر ما هو اعتراف داعية إسلامي بحجم عايض القرني الذي يحتكر جمهورا عريضاً، بأهمية استخدام الفن والفنان في إيصال صوته إلى ما هو أبعد من هذا الجمهور، ولأن الشيخ القرني يؤمن بأهمية إيصال قصيدته عبر فنان كبير مثل محمد عبده، فإنه في الوقت نفسه يؤكد على هذا الدور الذي يقوم به الفنان، ولعل من المفيد أن نذكر أنه آن الأوان لمثل هذا التواصل الذي يخفف من عبء التناقض بين الفن والدعوة، واعتراف كل جانب بأهمية الآخر بالنسبة له، وهذه خطوة مهمة يخطوها الداعية القرني، لأنه يدرك أن تحريم الغناء في حقيقة الأمر أمر مختلف عليه، وقد سبق وأن نوقش كثيراً، على المستوى الديني والثقافي، ومن المؤكد أن الغناء مثل أي قضية خلافية سنجد من يراه حلاً للمسلمين ومن يراه محرماً عليهم.
وأذكر أن الشيخ محمد الغزالي ذكر في كتابه المعني بهذا الأمر قصة ذلك الطالب السعودي في جامعة أم القرى حين دخل منزله في مكة المكرمة وهو يستمع إلى أم كلثوم، فهاله أن شيخه يستمع إلى الغناء، حتى قال له الشيخ إن الغناء يرقق القلب، وإن أم كلثوم وهي تصدح بقصيدة (نهج البردة) تزيد التشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو هكذا قال.
إن المفصل المهم في هذه المرحلة التي يتنبأ الكثيرون بأن تفرز مزيداً من التلاقي تتركز في بدايات جادة لتفهم عدد من الدعاة بالواقع الذي نعيشه والذي يتطلب أن يكون لدينا جميعا درجة أعلى من الوعي، وإن الفترة الحالية التي تتيح مزيداً من الحريات على المستوى الجمعي والفردي تدعو إلى التقارب للالتقاء حول لغة حضارية واحدة، فلم يعد ثمة ما يجدي من منع وحجب أي شيء مباح في زمن الإنترنيت والستلايت الشيء الذي جعل المعلومة متوفرة للجميع ولم تعد محتكرة أو مقتصرة على فئة من الناس دون غيرهم، أولئك الذين كانوا يؤمنون بأن هناك علم للخاصة، لا يجب أن يطلع عليه عامة الناس، وعلم يمكن الإفصاح عنه، مثل هذا المفهوم القاصر تجاوزه العصر، ولم يعد بالإمكان التحكم فيه، لهذا نجد من يطرح دراسات عن غياب النخبة، وبروز الثقافة الشعبية على المستوى الفكري، وهو ما ينعكس على مقدرة كل شخص في الاطلاع على أي معلومة كانت، وبالذات تلك المعلومات التي تخص دينه على وجه التحديد.
ومن هذا المنطلق نجد الآن تحولاً جيداً في كافة الاتجاهات لعل من أهمها ظهور مشايخ ودعاة قادرين على مواكبة العصر، أولئك الذين يقتربون من حاجات الناس، ويبسطون الأمور وهم يسيرون على نهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال: (بشروا ولا تنفروا) وهي دعوات إيجابية، حولت البعض منهم إلى مصلحين اجتماعيين يؤدون رسالة هامة، وإلى شخصيات تدعو إلى التفاؤل وإلى الفرح والسعادة والابتسامة وهي تدعو أيضا إلى حب الحياة، فحب الحياة لا يمكن أن يتعارض مع الدين بأي وجه من الوجوه، عش لدنياك كأنك تعش أبداً، إذن هناك حراك حقيقي، وليس مجد طفرة تتطلبها المرحلة، أو كما يحاول البعض إيهامنا وعلى أنه ممارسة تكتيكية من بعض الفئات لعدم وصمهم بالراديكاليين.
المسألة إذن تتجاوز التكتيك، حيث يتحول الدعاة إلى أشخاص قادرين على الحوار مع الآخر ونقبله بدرجة عالية من الوعي، الأمر الذي يؤسس لمنهج تعايش جيد بين جميع أطياف المجتمع بكل ما تحمله من اختلاف لا يؤدي إلى خلاف، تقبلني كما أنا عش معي لأننا في نهاية المطاف أبناء وطن واحد، هذا المفهوم هو الذي دعت إليه القيادة الرشيدة، فتح كل الأبواب والنوافذ التي تمنح الوطن تيارات هوائية جديدة تمكن أبناءه من التنفس برئتين شابهما في وقت مضى غبار الزمن، لكن صفاء الرئتين يحتاج إلى مزيد من الوقت، ويحتاج إلى مساحة من الحرية لإعطائهما فرصة كي تتنفس هواء أكثر نقاء دون قيود، وأن نتنفس بطريقة صحيحة، كم يعملوننا في تمرينات الاسترخاء، كثيرون هم الذين يتحدثون عن مثل هذه الأمور الهامة التي خلقها مبدأ الحوار الوطني الذي نادى به خادم الحرمين الشريفين وعمل على تأسيس مركز له.. تم من خلاله إطلاق حرية الطرح والحديث لفئات مختلفة من الناس، كان متوقعا لها أن لا تلتقي يوماً، ولم يكن أحد يتخيل أن يحدث بينهم مثل هذا الحوار، لكنهم الآن يلتقون على طاولة واحدة، يحترم كل واحد منهما الآخر، في محاولة للوصول إلى فهم مشترك يخدم الوطن، ولا نملك إلا أن نتمنى استمرار وتقدم مثل هذا الإنجاز الوطني الهام.
مستشار تدريب - معهد الأمير أحمد بن سلمان للإعلام التطبيقي - باحث في الشؤون الإعلامية