حدث كبير، لا بل زلزال تاريخي كبير، ذلك الذي شهدته الولايات المتحدة فجر الأربعاء 5 نوفمبر 2008، مع وصول رجل أسود إلى البيت الأبيض للمرة الأولى منذ تأسيسها.
إنه نفسه مشهد سبارتاكوس، ذلك المصارع الذي أشعل ثورة لاهبة ضدّ الإمبراطورية الرومانية عام 37 قبل الميلاد، لكن مع فارق مهم: (الرجل الاسود ) باراك حسين أوباما انتصر وأصبح رأس الإمبراطورية الأمريكية، فيما سبارتاكوس، انهزم وتحوّل إلى وليمة لأسود الإمبراطور الروماني.
كيف فعل أوباما ذلك؟ كيف نجح في تغيير 200 سنة من التاريخ العنصري الأمريكي المناوئ للسود، خلال 200 يوم، هي كل عمر حملته الانتخابية؟
لا ريب أن هذا الرئيس الشاب (47 عاماً)، شخصية كاريزمية ومن الطراز الأول، ولا شك أيضا أن برنامجه الذي رفع لواء (التغيير)، أصاب عصباً حسّاساً لدى الشعب الأمريكي، الذي عاش مع الرئيس بوش ثماني سنوات عِجاف، تدهورت خلالها سُمعة الولايات المتحدة إلى الحضيض، وتآكل اقتصادها إلى درجة خطيرة.
لكن سِحر أوباما وحده غيرُ كافٍ لفهم ما جرى. هناك أمران آخران:
الأول، قوة الديمقراطية الأمريكية ونُضجها، اللذان مكّنا الولايات المتحدة من القيام بالخطوة التاريخية، المتمثلة بكسر الحاجِز العنصري (وهذا كان العنوان الرئيسي لنيويورك تايمز، صبيحة يوم الأربعاء 5 نوفمبر).
والثاني، غرابة المجتمع الأمريكي واستعصائه على الفهم أو التوقع، الأمر الذي دفع مراسل (فايننشال تايمز) في واشنطن إلى الاعتراف بأنه، على الرغم من السنوات الخمس والعشرين التي أمضاها في تغطية تطوّرات واشنطن، إلا أنه سيُنهي رحلته الأمريكية المديدة هذه، بدون أن يفهم حقاً كنه أمريكا.
على أي حال، أمريكا قبل الرئيس أوباما، لن تكون أمريكا قبله. إنها تغيّرت إلى الأبد وبدأت تشقّ لنفسها مساراً جديداً في التاريخ.. مسار أكثر ديمقراطية وأكثر انفتاحا.
أوباما الإمبراطور
لكن، إذا ما كانت الصورة على هذا النحو الوردي في الداخل الأمريكي، فهل ستكون وردية أيضا في الشرق الأوسط؟
ليس بالضرورة البتة. فالعرب سيرَون في أوباما، ليس سبارتاكوس العصر الحديث، بل إمبراطور روما القديم، لأن نصر الديمقراطية الذي تحقّق عبره، لن يُترجم نفسه إلا استبدادا في فلسطين، ولأن شعار التغيير الذي جعله عنواناً لحملته الانتخابية، سيتحوّل إلى سياسة تجميد، حين يتعلّق الأمر بإسرائيل.
في اليوم الأول بعد ترشيح الحزب الديمقراطي له للرئاسة (4 يونيو 2008)، اختار أوباما أن يقف أمام (إيباك)، أخطر اللوبيات الصهيونية في أمريكا وأكثرها عنصرية وتطرّفاً، ليُعلن أن أمن إسرائيل (مقدّس) بالنسبة إليه، وأن مدينة القدس المقدّسة للعرب والمسلمين هي وقف يهودي - إسرائيلي صرف، وستبقى العاصمة الموحّدة لإسرائيل، وهو لم يكتف بذلك، بل لوّح للمرة الأولى بأنه (مستعدّ لعمل كل شيء، أكرّر كل شيء)، (على حد قوله)، لمنع إيران من تحدّي إسرائيل نووياً أو تهديدها عسكرياً.
قد يُقال هنا ان أوباما كان مضطراً لقول ما قال، لأن نجاحه في معركة الرئاسة يعتمد على أموال اليهود وعلى أصواتهم، خاصة في فلوريدا، لكن، أليست هذه هي الاعتبارات نفسها التي أمْلت على كل الرؤساء الأمريكيين، من وودرو ويلسون في أوائل القرن العشرين إلى جورج بوش في أوائل القرن الحادي والعشرين، إبداء الولاء المطلق والطاعة العمياء لإسرائيل؟ ألن تكون هذه الاعتبارات أيضا حاضرة بقوة في اليوم الأول لدخول أوباما إلى البيت الأبيض، حين يبدأ مساعدوه في التخطيط لولاية ثانية له؟
حظ العرب مع أمريكا عاثر، وسيبقى عاثراً، طالما حظوظ إسرائيل هي العملة الوحيدة المسموح بتداولها في السياسات الأمريكية، وهذه الحقيقة ستجعل انفصام الشخصية العربية الراهنة إزاء أوباما، انفصاماً مميزاً للغاية، حيث شخصية (مِستْر هايد) العربي المعادية للمجتمع (اقرأ أمريكا)، تسيطر بشكل تام على شخصية (دكتور جيكل) العقلانية و(الديمقراطية) والمحبة لشعار (التغيير والتحرير).
إستراتيجية جديدة
هذا على صعيد القلوب، أما في مجال العقول، فسيشهد الشرق الأوسط حتماً تغييراً كاسحاً في الأسلوب الذي ستُدار به السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط. تغيير سيتمحْور أساساً حول التوجّهات حِيال إيران في الدرجة الأولى، وسوريا في الدرجة الثانية أو حتى الرابعة، وهنا، ثمة ثلاثة وثائق (أوبامية) قد تُضيء بعض جوانب وأبعاد هذا التغير:
الأولى، كانت الدراسة التي نشرها المرشح أوباما في دورية (فورين أفيرز)، النافذة في يوليو أغسطس 2007 بعنوان (تجديد الزعامة الأمريكية)، وتمحورت حول الآتي:
- كي نستطيع تجديد الزعامة الأمريكية في العالم، يجب أولاً أن نصل بحرب العراق إلى نهاية مسؤولة ونركز اهتمامنا على الشرق الأوسط الأوسع، عبر سحب كل الفرق العسكرية الأمريكية من العراق قبل 31 مارس 2009م
- في الوقت نفسه، يجب أن نطلق مبادرة إقليمية ودولية شاملة للمساعدة على وقف الحرب الأهلية في العراق ومنعها من التمدّد إلى خارج حدوده.
- رغم أننا لن نستبعد استخدام القوة مع إيران وسوريا، إلا أننا سنركِّز جهودنا على ممارسة الدبلوماسية الصارمة والحازمة المستندة إلى مناحي القوة الأمريكية، السياسية والاقتصادية والعسكرية.
- دبلوماسيتنا يجب أن تستهدف رفع الأكلاف بالنسبة إلى إيران، إذا ما واصلت برنامجها النووي، في الوقت نفسه الذي نظهر فيه لها - وخاصة للشعب الإيراني - ما يمكن أن تربحه إذا ما غيرّت نهجها: تعاون اقتصادي وضمانات أمنية وعلاقات دبلوماسية.
- كما أن الدبلوماسية المقترنة بالضغط، تستطيع أيضا توجيه سوريا بعيداً عن أجندتها الراديكالية نحو مواقف أكثر اعتدالاً، وهذا بدوره سيساعد على استقرار العراق وعزل إيران وتحرير لبنان من قبضة دمشق، وتوفير أمن أفضل لإسرائيل.
الشعار الذي طرحه أوباما هنا هو (الدبلوماسية الصارمة والحازمة) Tough Diplomacy والتي يفترض أن تقلب التوجهات الأمريكية تجاه إيران: بدل التهديدات العسكرية والمفاوضات السرية، كما كانت إدارة بوش تفعل، ستصبح الأمور الآن: مفاوضات علنية وتهديدات سرية.
هذه النقطة الأخيرة أوضحها أوباما نفسه بجلاء أكبر في الوثيقة الثانية، والتي تمثلت في خطابه أمام لوبي الضغط الإسرائيلي القوي (إيباك) في 4 يونيو 2008، قال: (ليس هناك تهديد لإسرائيل - أو للأمن والاستقرار في المنطقة -، أكثر من إيران. فالنظام الإيراني يدعم المتطرفين العنيفين ويتحدّانا في طول المنطقة وعرضها، ويسعى وراء حيازة أسلحة قد تطلق سباق تسلح خطر وتزيد من خطر انتقال الأسلحة النووية إلى أيدي الإرهابيين. الخطر الإيراني كبير وحقيقي، وهدفي كرئيس، سيكون إزالة هذا التهديد).
وكيف ينوي أوباما أن يفعل ذلك؟ عبر (الدبلوماسية الصارمة والحازمة) نفسها التي طبقها في السابق الرؤساء ترومان وكينيدي وريغن، والتي تبعث إلى الإيرانيين بالرسالة التالية (النص لأوباما): إذا ما تخليتم عن برنامجكم النووي الخطر وأوقفتم دعم الإرهاب وإطلاق التهديدات لإسرائيل، سيكون هناك في المقابل حوافز ثمينة تشمل رفع العقوبات والدمج الاقتصادي والدبلوماسي في الأسرة الدولية. أما إذا ما رفضتم، سنرفع إلى حدّ كبير من وثائِر الضغط).
الوثيقة (الأوبامية) الثالثة وردت في تحليل لمركز الدراسات الإستراتيجية (ستارتفور) في 23 سبتمبر 2008 الماضي، لكن هذه الوثيقة ركزت على نقاط الالتقاء المحتملة بين إدارة أوباما وبين طهران لأعلى نقاط الخلاف، وهي أشارت إلى أنه، لكي يستطيع الرئيس الأمريكي مواصلة الحرب في أفغانستان ضد عدُو إيران طالبان وعلى الحدود القبلية الباكستانية، إضافة إلى إعادة الاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط الأوسع، سيتعيّن عليه الانسحاب من العراق، ولكي ينسحب من العراق، يجب أن يتعامل أولا مع إيران، وهذه المسألة الأخيرة باتت أكثر أهمية خوفاً من أن تقوم روسيا (المتمردة) بإبرام تحالف مع طهران، من شأنه قلب الكثير من المقاييس والموازين في الشرق الأوسط.
تمخّضات إيرانية
هذه إذن هي توجّهات أوباما المتوقعة إزاء إيران: عصا في شكل جزرة ملفوفة بورق (سوليفان)، لكن، هل سيبتلع الإيرانيون هذا (الطعم)؟
يجب التذكير هنا بأن الرئيس الأمريكي الجديد سيتسلم منصبه في الوقت نفسه تقريباً الذي ستحتفل فيه الثورة الإيرانية بعيدها الثلاثين، ونظراً إلى تراكم ثلاثة عقود من فقدان الثقة المترافق مع سوؤ الإرادة، لن تكون نتائج أي عملية حوار سريعة، إذ إن حالة عداء كهذه، لن تتلاشى بعد اجتماع أو اثنين أو حتى بعد العديد من الاجتماعات، سيكون الإيقاع في البداية شديد البُطء على الأرجح، إذ إن كل طرف سيوَد التأكد من حسن نوايا الآخر، كما أنه، نظراً إلى النتائج الهائلة التي سيفضي إليها تبدل العلاقة مع واشنطن بالنسبة إلى مستقبل إيران، سيكون ثمة مجموعة من الأسباب التي ستحُول دون حصد ثمار في البداية، مهما كانت محاولات أوباما دؤوبة.
على المستوى البنيوي، ستعمل الطموحات المتنافسة لدى مختلف الأطراف والمؤسسات في طهران على جعل النظام عاجزاً عن التوصل إلى اتفاق داخلي يمكن أن يقطع مع الماضي، وبسبب تعدد الأجنحة هذه، كانت الجمهورية الإسلامية تميل، تاريخياً، إلى اتخاذ قراراتها الصعبة تحت الضغط فحسب. واليوم، وبعد أن سَكِر المتشددون الإيرانيون بخمر موقعهم المكتسب حديثا، قد لا يجدون أنفسهم مدفوعين للتوصل إلى أي حلول وسط.
جمود السياسات والشعارات المترسِّخة قد تنتصر، مهما بلغت جودة الجهود التي تبذلها واشنطن.
قد يعد المتشدّدون في إيران، وربما خامنئي من بينهم، أن المصالحة مع واشنطن تهدّد مصالحهم وحتى بقاءهم في السلطة، نظراً إلى التغيّرات الداخلية غير المتوقّعة، التي قد تتسبّب بها.
وتشير كتابات خامنئي وخطَبه إلى أنه يتفق مع محللين غربيين يؤكِّدون أن انفتاح إيران على الولايات المتحدة قد يدفع نحو إصلاحات ثقافية وسياسية واقتصادية واسعة. فما عساه يبقى من الأسس الإيديولوجية لدى الجمهورية الإسلامية، إن هي تخلّت عن معارضتها للولايات المتحدة وإسرائيل، وهما الرّكيزتان الإيديولوجيتان الأساسيتان الباقيتان من أصل ثلاث (الثالثة هي الحجاب الإلزامي للنساء)؟
لكن في الوقت نفسه، سيكون الرفض المباشر لأي انفتاح أمريكي مكلفاً بالنسبة إلى القيادة الإيرانية. فثمة وراء الكواليس قسم لا بأس به من النخب السياسية والعسكرية في البلاد، تعترف بأن ثقافة (الموت لأمريكا) التي ولدت في عام 1979، لم تعد بنّاءة اليوم، كما أنها تعرف، أنه على الرغم من موارد إيران الطبيعية والبشرية الكبيرة، إلا أنها لن تتمكّن أبداً من تحقيق كامل قدراتها، طالما أن علاقتها مع الولايات المتحدة تناحرية.
وفي الوقت الراهن، يعتقد العديد من هذه النخب أن أمريكا وليس إيران، هي التي تعارض إمكانية تحسين العلاقات. وإذا ما أصبح واضحا أن زمراً صغيرة من المتشددين في طهران، هي العائق الرئيسي، فإن المعارضة الداخلية ستتنامى، وربما يولد معها شرخ واسع وغير متوقّع، هذا إضافة إلى أن الضغط على المستوى الشعبي سيتفاقم.
فثلثا الإيرانيين تحت سنّ الثالثة والثلاثين، وقلّة منهم تكن عداءً كامناً للولايات المتحدة أو ميلاً خاصاً إلى الثورة الإسلامية، وهذا الاعتدال السياسي يتقاطع مع امتعاض اقتصادي واسع، خاصة أن إيران ربما كانت البلد الوحيد صاحب الإنتاج الكبير من النفط، الذي يشكو أهله من تدهور أوضاعهم الاقتصادية، على الرغم من تضاعف أسعار النفط ثلاث مرات.
صحيح أن الشارع الإيراني يُلقي مسؤولية العداء بين الولايات المتحدة وإيران على كاهل إدارة بوش، إلا أنه قد يتحرك في اتجاه حيوية سياسية متجددة، إذا ما اتضح له أن حكومته هي العائق الحقيقي.
ويعتقد الباحث الإيراني - الأمريكي البارز كريم سنجدبور، أنه إذا ما اصطَفَتْ الولايات المتحدة التوقيت الصحيح، ستجد أن لديها الكثير لتربحه والقليل لتخسره في حال قلبت سياساتها المطبقة خلال العقود الثلاثة السابقة وبدأت ببذل جهد للعمل على إقامة علاقات ناجحة مع الجمهورية الإسلامية، ستكون العملية بطيئة وصعبة ومثيرة للغضب، وستتطلب التزاماً عميقاً وصبراً هائلاً، كما ستحتاج إلى جهد كبير لشرح المسألة في الداخل وللحفاظ على الدّعم الشعبي في وجه المصاعب شِبه المؤكدة، التي ستواجهها إيران إذا ما ألزمت نفسها بمقاربة جديدة. لكن على الرغم من كل ذلك، المحاولة ضرورية. فما من بديل واقعي آخر سيخدم بشكل أفضل ضرورات الأمن القومي الأمريكي.
المقاربة الناجحة ستحمل في طيّاتها تغييراً في السياسة الخارجية الإيرانية، ولكن حتى المقاربة الفاشلة قد تكون لها مضاعفات داخلية مهمّة في طهران.
باراك حسين أوباما غيّر أمريكا في شكل لا عودة عنه، الأمر الذي قد يغير أيضا صورتها في العالم من اللون الأسود الجهنمي إلى الأزرق السماوي. لكن ماذا سيحدث في الشرق الأوسط؟
حسناً. التشاؤم سيبقى سيد الموقف، طالما بقي خطاب أوباما أمام أيباك هو سياسته الرسمية إزاء فلسطين والعرب والمسلمين.