لفت نظري ما نشرته إحدى الصحف نهاية الأسبوع الماضي من إجماع الحضور في أحد الأندية الأدبية على موضوع قيادة المرأة السيارة، رغم أن المحاضرة لم تكن عن هذا الموضوع ولم يتطرق المحاضر لهذه الإشكالية المجتمعية المعروفة لا من قريب ولا من بعيد ولكنه أورد بنفسه سؤالاً عارضاً في نهاية محاضرته وعلى غير العادة وذلك من أجل أن يعرف إلى أين وصل الحال، وهل تم الاقتناع في هذا المجتمع الصغير نسبياً بهذا الموضوع الإشكالية في المملكة العربية السعودية (قيادة المرأة السيارة)؟ ومع احترامي الشديد لسعادة المحاضر ولجمهور النادي وللجريدة التي نشرت الخبر في صفحتها الأولى إلا أنني أعتقد أن مثل هذه المواضيع الساخنة التي تتجاذبها ضرورات وذرائع تحتاج إلى رأي العلماء، تحتاج إلى فتوى جماعية وليست حتى فردية من علماء ربانيين عُرفوا بالعلم الشرعي الرصين والدراية الواسعة بالدليل والاستشراف الواعي للواقع، وهذا الأخير يستلزم - في نظري- دراسات ميدانية معمقة من أهل الاختصاص لتكون بمثابة المرجعية الموثقة حين قراءة الواقع اليوم، والهدف منها ليس معرفة رأي الأكثرية بقدر ما تهدف هذه الأبحاث إلى تقصي الأسباب ومعرفة الأبعاد والمعطيات والعقبات والضرورات والذرائع (المفاسد والمصالح في الإجازة أو المنع) إذ إن الكثرة ليست هي معيارية الحق في الإسلام، {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}، {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ}. فالعلماء وبهذه المواصفات هم أ هل الذكر الذين يعول عليهم في تقدير الضرورات وضبط المسائل والمقدار المسموح به رفعا للضرورة (فالضرورات -كما يقول المقعدون للفقه - تقدر بقدرها)، كما إن العلماء هم من يعرف المفاسد والمصالح الحالية ومحتملة الحدوث بل يعرفون أحق الحقين حين تعارضهما وأقل الشرين عند حلولهما فيختاروا ما يناسب المجتمع ويضمن سلامته حسب معطيات الواقع وفي ظل خصائص هذا الدين الصالح لكل زمان ومكان، ولذا قد أرى شخصياً أن قيادة المرأة السيارة صارت ضرورة ملحة اليوم، وأن المفاسد محتملة الحدوث من وجود السائقين الذين يسكنون بيوتنا والخلوة غير الشرعية بالمحارم، وأشد من ذلك ما يسمى بسواق أبو عشرة ريال الذي ينقل النساء من مكان إلى آخر وبمبلغ زهيد ودون حسيب ولا رقيب وسواق الجيران وسائق الأجرة و...، وأن معطيات العصر الجديد المليء بالمشاغل والأعباء الملقاة على عاتق بعض الآباء ذوي المصالح الخاصة التي قد تضطرهم للسفر أياماً والغياب عن أسرهم ساعات طويلة من اليوم و... الأمر الذي يجعل قيادة المرأة ضرورة ملحة خلاف الحال في السابق خاصة إذا لم يكن في البيت أولاد كبار، إضافة لكثرة حالات الطلاق والعنوسة والترمل وكثرة الموظفات التي قد تُبتز وتساوم على عرضها لا سمح الله نتيجة حاجتها لمن يوصلها إلى مقر عملها أو العكس أو أنها تتعرض للمسألة التي قد تؤدي للفصل من العمل ... كل هذه الصور والحالات قد تجعلني أرى مثلاً أن قيادة السيارة صارت ضرورة لدى بعض الأسر وفي مدينة مثل الرياض أو جدة مثلاً، ومع ذلك فإن هذا الرأي الشخصي الخاص يظل قاصراً عن الإحاطة والدراية بالمصلحة العامة والتي يقررها ولي الأمر على ضوء ما يتوصل له علماء البلد الذين أناط بهم الإسلام مسؤولية الاجتهاد فيما يجد من مسائل لم تكن في السابق، مثل هذه المسألة بيع النساء للمستلزمات النسائية في أسواق الرجال، ووجود أندية رياضية خاصة بهن، وتسنمهن مناصب قيادية هامة و... إن هناك صوتا قويا يقول إن التخوف مبالغ فيه وإن المفاسد المحتملة يردعها القانون الذي يسن وهي أقل من المفاسد المتيقنة من وجود السائقين في بيوتنا ومع آهلين رضينا ذلك أم لم نرض، فهي من الأمور التي عمت بها البلوى وشملت الغالبية اليوم، كما أن هناك من يقول الأندية الرياضية الخاصة بالمرأة أصبحت ضرورة في ظل ترهل الأجساد وعدم الحركة وفي زمن صار الرجل يقلب ناظريه على شاشة القنوات الإعلامية فيغريه القد ويهز مشاعره القوام، وهناك من يسطر أن بيع النساء المحجبات لمستلزمات المرأة الداخلية أجدى وأستر وأقرب للدين من عرضها في الفترينات وتقليب الرجل الأجنبي لها أمام المرأة وتحديد مقاسها و...، أما بطاقة المرأة ووجود أقسام نسائية في المؤسسات الحكومية الخدمية فهو ضرورات متيقنة ينبغي أن تقدر بقدرها وتوضع في نصابها الحقيقي، ومع أنه لا وجود لنصوص شرعية تمنع إلا أن العرف والعادة غطاء ثقيل وللأسف الشديد، إنني - كما قلت ? على افتراض - أن هذه قناعاتي إلا أنني أتوقف مثل غيري كثير لينبري لهذا الأمر كبار هيئة العلماء الذين نأخذ عنهم الفقه المبني على الدليل والعارف بالواقع.
إن قضايا المرأة السعودية اليوم تتصدر والعلماء الموثوق بهم مدعوون لاجتهاد جماعي بعيداً عمّا ينقل عن بعضهم من تناقضات تفتح الباب على مصراعيه لاجتهادات شخصية في مسألة حادثة تحتاج إلى فتوى جماعية يتخذها ولي الأمر متكئ للقرار السياسي الذي به مصلحة البلاد والعباد، والله المستعان، والسلام.