تقرر المعطيات الواقعية والقرائن التاريخية أن للسياسي وللمثقف معاً دورين بالغي المحورية في الحياة العامة إذ هما وجهان لعملة واحدة يصعب فصل أحدهما عن الآخر إذ ليس ثمة تقاطع تضادي بين السياسة المأخوذة بالمصالح والثقافة المهمومة بالحقائق..
وذلك خلافا لمن يعتقد بأن التعارض هو الأصل الحاكم لهذه العلاقة، وأنه ليس ثمة سبيل لصياغة رؤية متقاربة لردم تلك الفجوة البينية وتهذيب التعاطي المتبادل.
ثمة من يذهب إلى أن التعارض هو الأصل باعتبار أن الثقافة تقوم على المثالية النظرية بينما تقوم السياسة على الميكافيلية النفعية وعلى ضوء هذا يسود اعتقاد بأن بتّ الصلة بينهما قيمة روحية تتحتم الصيرورة إليها؛ مع أن الحقيقة هي أن الأصل في السياسي أن تكون له أرضية فكرية ثقافية يتحرك وفقها ويباشر صياغة استراتيجيته على هديها على نحو يقيه التيه ويجنبه الارتجال العشوائي؛ كما أن الأصل في المثقف كفاعل تبشيري مؤرق بهم أمته ألا يدلف في عزلة تفصله عن معايشة أوضاع الواقع الحركي؛ بل يفترض أن يتوافر على وافر حظ من الفقه السياسي ولو على مستوى الحد الأدنى فيعي التشكلات المتعينة والمكونات المتموقعة المتناثرة في خرائط الواقع حتى لا تكون أطروحاته التنظيرية مغردة بعيدا عن معاناة الوعي العام وانشغالاته.
السياسي والمثقف يمثلان ركنين أساسيين من أركان النهوض بالأمة ومضاعفة درجة فعاليتها. إن العالِم الحق يدرك أنه لايتنافى موقعه الفقهي الذي يختزن في باطنه المعنى الروحي مع الانفتاح على أجواء السلطة التي تستبطن في مضمونها المدلول المادي بل هو يعي أن رحابة الهوة بين الطرفين - العالِم والسياسي - يمثل أحد أبرز المحركات الجوهرية لتداعي التماسك الاجتماعي وتفاقم العناصر المعززة لمبلورات وهنه.
الشعوب في مسيس الحاجة إلى تلك الفئة الطليعية التي في مقدمتها العلماء بحسبهم العقل المفكر للأمة الذين يعول عليهم في صقل الهمم وشحذ الفعاليات وتنوير الرأي العام ومواجهة كل علامات الاستفهام التي تثيرها التطورات الحياتية؛ تلك القيادة الدينية يقع على عاتقها تجسير الفجوة وصياغة آليات التواصل وتأسيس ضرب من الثقافة العلائقية الإيجابية مع صناع القرار السياسي وتوظيف تلك العلاقة لا للمصالح الذاتية والأجِندة الأنوية، بل للصالح العام الذي يتحرك على نحو يفيء على المجموع الكلي بالمردود النوعي والعائد المثمر.
إن إدارة العلاقة البينية بين القيادتين الدينية والسياسية يفترض أن تنطوي في أعماقها على معنى الرسالة التي لا تفتأ تستحضر الشعور الجمعي في مقابل تواري الإحساس الفردي وحينها تكون معاناة العالِم مستوحاة - بشكل أو بآخر- من معاناة مجتمعه الشأن الذي يحدوه إلى ترميز معاناة ذلك المجتمع فهو هنا همزة الوصل بين الأمة وقياداتها السياسية.
العالِم الحق هو ذلك الذي يحفظ للقيادة السياسية القائمة على جوهرية الأفق الديني حقوقها فيدين لها بالولاء ويضع يده في يدها فلا يروج عنها التصورات الذهنية التي تقلل من قيمتها وتشوه صورتها ومن ثم تمهد لمصادمتها ولا يكون عاملا فعالا في إذكاء أوار الاحتقان ومضاعفة التوتر وتهييج الفصائل الغوغائية لمفاصلة الأنظمة القيادية، إنه لا يليق شحن الذهنية العامة وجعلها ضحية لدعاية منظمة تتكئ على ثورية الطرح الرامي إلى تفتيت اللحمة الأهلية والاشتغال على إشباع الذاكرة الكلية بالصور السلبية ضد السلطة القائمة على ثوابت النص وقطعياته، العالِم الحق لا يثير شغبا هنا أو هناك ولا ينفق طاقاته في حياكة المكائد وتكثيف حملات الإسقاط وإنما يوظف جهوده النهضوية لإعلاء مستوى الوعي بضرورة المحافظة على سكونية الأجواء واتساق المناخات العامة وضرورة التمنع ضد كافة بواعث الاحتراب بالإضافة إلى تسويق الأدبيات التي تؤسس لوحدة الصف ولمنطق التماهي في غير محظور ديني مع التوجه العام للمسؤول الأعلى في الهرم السلطوي؛ هذا النوع من العلماء ينطوي على وعي عميق للمعطيات العالمية المعاشة التي نتقلب في أرجائها ولديه كبير بصيرة بمنطق العلاقات الدولية وبالتعقيدات التي تحكمها فهو يوليها ما تستحقه من اعتبار إبان تقويمه للحراك المتعين، إنه يعي استثنائية اللحظة وعتمة ملابساتها ويعي الخلفيات التي تفرزها حركة الصراع في ساحة الواقع ويدرك الحيثيات الجيوسياسية المحيطة بالمشهد العالمي وما تفرضه من ضغوطات هائلة تحدو بالفاعل السياسي في هذا المنعطف التاريخي - وفي مساقاة كثيرة - إلى التحوير في فقه الأولويات والتجافي عن الأهم إلى المهم والتنازل عن الفاضل إلى المفضول واصطفاء المرجوح بدلاً عن الراجح في سياق من فقه المصلحة الذي لا يُغفل الأولويات الموضوعية ولكنه بفعل تحديات الواقع المفصلي يجعلها على هامش اشتغاله البنائي منصرفا في الآن عينه للاستغراق في آفاق الممكن محركاً لإمكانياته في المسار الثر، وموظفا لجهوده في سياق مضمون الإنتاج؛ وفى المقابل أيضا يحفظ للمجتمع حقوقه فيستشعر أحاسيسه ويوصل صوته إلى قيادته وينقل همومه الاجتماعية وطموحاته الدينية وإشكالياته الاقتصادية بمنتهى الشفافية إلى المبلور الأول للقرار، والذي يفترض ألا تحجب عنه معالم الصورة الكلية بعامة تفاصيلها.
العالِم الحق كحالة ثقافية لها تأثيرها القيادي لا ينعزل عن الأمة ولا يتعاطى معها بحسبها كما رقمياً مهملاً أوكياناً ملغى من الحساب، وإنما ينفتح عليها بحسبها مؤهلة لتجاوز دور التلقي والانفعال إلى أخذ حيز يفترض أن تؤكد من خلاله حضورها المقنن والمنضبط في المشهد الواقعي العام، ولكنه أيضا في المقابل يربأ بذاته عن أن يكون بوقاً لحركات التمرد الغوغائية فيتحرك بفعل الانفعال بالضغط الجماهيري؛ فالجماهير لا تقوده، بل هو يقودها بفعل تحرره من سلطتها، وانفلاته من إطارها، إنه لا ينفعل بوجدانها بقدر ما هو ضابط لتوازنها وكابح لجماحاتها اللا محسوبة، إنه ليس عالِما انكفائيا مسكونا - فقط - بهمّ التماهي مع المناخ العام؛ بل ثمة مسافة بينه وبين مريديه تؤمّن له مبدأ المفاتشة والمراجعة وتوفر له نوعاً من الأفق الاستقلالي مما يتيح له بالتالي ترشيد تعاطيه مع ذلك القطاع العريض فهو لا يلغي ذلك التيار الواسع، وأيضاً لا يسلس قياده له، ولا يكون رهينا لقبضته ولا أسيراً لهيمنته التي لا تفضي إلا إلى تعطيل ملكات الاجتهاد ومصادرة العناصر الباعثة على التجاوز التفكيري.
ثمة قدرة عالية لديه على مقاومة كافة محاولات الاحتواء مهما تناهت ضراوة وقعها، إذ القيمة الاخلاقية المحورية لديه هي ملامسة الحقيقة بعيدا عن المنافع الذاتية. إنه لا يليق بالعالِم- والمثقف عموما- أن تحدوه محرضات رغبوية إلى تطويع الحقيقة وإكراهها إلى حيث تتقاطع وغايات الأنا وفى مثل هذا السياق تتجلى سافرة اشكالية المنظومة الثقافية والعلائقية (الابستيمية) التي تفرض على المثقف دورا مقدرا سلفا ليس بمكنته الانعتاق من محدداته إذ هو حبيس لذلك الدور الذي أملى عليه التبجيل الديمومي للحقائق المتعينة فهو لا ينفك عن التأكيد على نهايتها أو مطلقيتها وعدمية مغايرها!
وصفوة القول: إن تعزيز الروابط الوشائجية التفاعلية الحية بين العلماء والحكام على نحو يستجيب لإملاءات المصلحة الشمولية للحياة ويمهد لانطلاقة تألقية كبرى، محدد جوهري لا مناص عنه إن رمنا التحليق في فضاء التقدم وإحراز الانتصار في حقول الغلبة الحضارية.
Abdalla_2015@hotmail.com