في مقالين متتابعين كتب معالي الشيخ عبدالله المنيع في زاويته اليومية في جريدة (الوطن)، يندد بظاهرة (شراء الدماء)، ويعني بها بذل الجاه والتوسط لدى ذوي المقتول لمنع تنفيذ القصاص المحكوم به شرعاً، والاستعاضة عن القصاص بالدية، التي قد تصل في الغالب إلى مبالغ كبيرة، الأمر الذي يجعل صاحب الحق يذعن للإغراء، ويتنازل عن حقه، فينجو المجرم من القصاص، ويعود إلى المجتمع كأن شيئاً لم يكن.
يقول الشيخ مندداً بهذه الظاهرة (هل نحن أرحم من رب العالمين القائل {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}، وأتساءل مع أهل العلم: هل المساهمة من أهل الخير واليسار تعاون على البر والتقوى أم أنها مساهمة في التعاون على الإثم والعدوان؟).
من الناحية الشرعية، فإن ذوي المقتول (ينحصر) فيهم حق المطالبة بالقصاص بعد الحكم به شرعاً، أو قبول الدية، على وجه التخيير، ولا يمكن أن ينازعهم أحد في هذا الحق. وقد ندب الشرع الحنيف العفو، وشجع عليه. غير أن العفو وقبول الدية لا يعني أن تعطل الأحكام، ويصبح العفو بمقابل مادي هو (الأصل) وتنفيذ القصاص، وعدم الاستكانة للإغراء المادي، هو (الاستثناء)، كما هو عليه الوضع الآن، هنا يصبح تدخل السلطات الحاكمة ضرورة تمليها المحافظة على أرواح الناس؛ فالردع والزجر، ومحاربة الجريمة، مقصد من مقاصد الأحكام الشرعية للحفاظ على سلامة المجتمعات، وهذا هو المدلول المباشر لقوله جل شأنه {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ}. وعندما يتكاتف ذوو المال والجاه واليسار على ترسيخ العفو، وتشجيعه، على حساب تعطيل أحكام القصاص، فإن تبعات مثل هذه الممارسات عندما تتحول إلى ظاهرة قد تؤدي إلى التساهل في القتل وإزهاق الأرواح، ويصبح لدى المجرم القاتل فرصة النجاة من العقاب الرادع المقرر شرعاً، ومثل هذه (الفرص) عندما تتكرس، وتصبح ظاهرة، تتحول -في تقديري- إلى خطر اجتماعي، لا بد من درئه بتغليظ الأحكام المترتبة على (الحق العام)، والمناط تنفيذها بالسلطات الحاكمة، كأن يصبح الحق العام عندما يتم قبول الدية من ذوي المحكوم عليه قصاصاً بالقتل هو (السجن المؤبد) مثلاً.
النقطة الثانية التي لا بد من الإشارة إليها في هذا السياق هي إقحام (البعد القبلي) في قضايا تفادي أحكام القصاص، وتكاتف أبناء القبيلة في (الفزعة) للجاني، الأمر الذي يرسخ في نهاية المطاف (الروح القبلية)، على حساب الانتماء للوطن، وهذا ما يجب أن نسعى إلى تفاديه، وجعل الانتماء للوطن هو الانتماء الأول الذي لا يعلو عليه أي انتماء آخر.
أن تصبح القبيلة هي الدرع المنيع الذي يحمي الإنسان، ويقيل عثراته، ويذب عن حياته، يعني بالضرورة أن المواطن الذي لا ينتمي إلى قبيلة، أي ليس له (عزوة) بالمفهوم الدارج، دمه أقل قيمة من المنتمي إلى قبيلة، وهذا ما يؤدي في النتيجة إلى خلل خطير في مبدأ (المساواة) في الحقوق بين أبناء المجتمع الواحد، الذي يرسخه الدين الحنيف، وترسخه كذلك قيم المجتمعات الحديثة.
(الزبدة) التي أريد أن أصل إليها هنا: أن الركن الأساس الذي يجب أن (يغلظ) عند القبول بالدية، هو (الحق العام)، حماية للمجتمع، وردعاً للمجرمين.. وهذا ما يجب ألا نتساهل فيه، مهما كانت المبررات، فحماية المجتمع هي الأولوية التي يجب ألاّ ترتفع عليها أية أولوية.
إلى اللقاء.