ما بالك بشخص حديث عهد بزيارة بلد أجنبي ويعود إلى وطنه، وتمر الأيام ويرجع إلى روتينه اليومي، ومنه الانتقال من مكان إلى آخر في مدينته المكتظة بالسيارات، ويقف عند إشارة المرور ثم تضاء بالأخضر، علامة عالمية متفق عليها.
ثم تتحرك السيارات في المسار الآخر، على الرغم من أن الإشارة حمراء بالنسبة لها، ثم تضاء الحمراء من جهته وتأخذ الآخرين العزة بالإثم ويتحركون والإشارة لديهم حمراء. كيف هذا الأمر؟ لا أدري، حياة أناس وثقافة مجتمع. ونقول هذه الجملة؛ لكي نخرج من الإشكالية، أو نبرر المواقف والتصرفات، ولا نحرك ساكناً بعد ذلك، ثقافة مجتمع، مزاجية أشخاص، ونزوات أفراد، بل مجتمعات، وهكذا.
ألسنا نرى كيف يأتي قائد سيارة من أقصى اليمين ثم يعترض أمام السيارات الواقفة بانتظار الإشارة الخضراء، ثم ينطلق بسرعة كالقذيفة، (لا خوف من الله ولا حياء من خلقه)، كما يقال، يريد أن يسبق غيره ويأخذ دور سواه دون حق، بالقوة، بالعنجهية، بالغطرسة، ولربما يعمل الشيء نفسه عندما يذهب إلى دائرة حكومية ويحاول أن يتجاوز الأنظمة ويتخطى الحواجز؛ ليكون الأول ولينجز حاجته قبل مَن سبقه في الحضور، وقد يساعده الموظف، أمام الناس المنتظرين أدوارهم. ما الذي يحصل؟ خروج على الأنظمة وعلى الأعراف، أم ماذا؟ أنانية وحب للذات واستهتار بمشاعر الغير وضرب بالأنظمة عرض الحائط.
إذن المسألة سلوكيات وعادات وطباع لها مظاهرها عند إشارة المرور وفي المكاتب وفي الأسواق وعلى طول الشوارع وعرضها.. هل يمكن لمجتمع أن يعيش دونما نظام؟ وهل يستقيم نظام دونما تطبيق؟ وهل يتحقق التطبيق دونما محاسبة ودونما عدالة؟ أسئلة تدور في ذهني وذهنك، ونفكر في حلول لها، بل الحلول موجودة ولكنها غير متاحة، ونشتكي ونتذمر ونتحدث في مجالسنا وننهي الحديث بعبارات تخرجنا من الإشكالية الجدلية، ولكنها لا تحل المعضلة، كأن نقول: (وش نسوي؟) (هذا المجتمع)، (الحلول صعبة).
قد توافقوني بأن ثمة مؤسسات تسهم في تشكيل الشخصية: الأسرة، المدرسة، الجامعة، الشلة، أليس كذلك؟ ولكن قد لا يكون هنالك تناغم بين هذه المؤسسات قد تعطي واحدة وتأخذ الثانية ما أعطت الثالثة وهكذا. هل الجامعة، مثلاً، تخرج الطالب بمعلومات حديثة وبمعارف مميزة وبأخلاقيات عالية؟ تعالوا (شوفوا) الوضع المروري في داخل أسوار بعض جامعاتنا: الوقوف المزدوج وعلى الأرصفة المعدة للمشاة، والمشادة الكلامية والتطاول على رجال الأمن، المنوط بهم تنظيم الحركة المرورية.
وتجاذبت الحديث مع أحد الإخوان حول سلوكيات قائدي المركبات، فيقول لي: أخي لقد طفح الكيل ونفد الصبر وطرحت معضلة على درجة من الأهمية، ويتابع بالقول: هناك مَن يستعرض كأنه في سباق رالي للسيارات، والبعض مسكين ما يعرف يقود السيارة، والآخر مستهتر وما يصبر على الزحمة، وهناك مَن يستمتع باستعمال الجوال أثناء قيادته للسيارة، والملاحظ أن التركيز يضعف إن لم ينعدم، ويصبح ذهنه مع مَن يتحدث معه.
أذكر هنا عندما نتحدث عن (بولس) وهي كلمة يونانية تعني (المدينة) التي خرج منها ثلاث (بآت): (policy) التشريع، أو النظام، و(police) الشرطة و(politics) السياسة؛ فيوضع التشريع ثم يكون هنالك مَن يراقب التطبيق والفئة الثالثة تكون الوسيط بين ما يشرع وما يطبق، في صالح النظام ومن يطبق عليه. أليس هذا ملاحظاً من عهود أو من آلاف من السنين. واقع الحال أن التشريع موجود والشرطة غائبة والسياسة غير متواجدة. أريد من مختصين في الجامعة، من الباحثين ومن الصحفيين أن يجروا مقابلات مع سائقي المركبات، مع الشباب على وجه الخصوص؛ لنعرف ما يجري في رؤوسهم من آراء حول هذه السلوكيات الغريبة والحركات الطائشة التي ينتج عنها حوادث مروعة وخسائر جسيمة في الأرواح والممتلكات، ويخسر المجتمع من جرائها خسائر فادحة.
قفوهم، يا ناس، واسألوهم؛ لربما في رؤوسهم أمور يمكن الاستفادة منها، لربما لديهم وجهات نظر لا نعرفها، سوف نخرج من الحديث معهم بمعلومات جديدة، لماذا يعملون ما يعملون ويتصرفون في الشوارع والطرقات ما يتصرفون؟ نريد إجابات من أفواه الناس، لا أن نجيب بالنيابة عنهم.