فاطمة تبسط على الأرض قطعة مستطيلة من خامة انحل نسيجها..
|
ترتب فوقها حلوى سهرت الليل تعدها في آنياتها الصغيرة..
|
تسكب عليها ألواناً من التوت المُحلى، ونكهة الموز، والبرتقال..
|
تباكر شارعاً ينعطف منحناه لطريق الحرم، تعرف أن زغب القطا سيتراكضون في طريقهم للدروس على بسطتها، وهي تناول كفوفهم الغضة حلواها، بيد وتستلم القروش مقابلها بيد أخرى، بعضهم ينحني نحو رأسها فتعرف أنه لا يملك المقابل، تهز رأسها بالموافقة وتدس مزيداً من الحلوى الإضافية لكفه الأخرى دون مقابل، فإذا ما انتصف النهار أو كاد، حملت طبقها الكبير وبساطها النحل عن نسيجه وعادت أدراجها تحصد ما اقتنت في حجرتها على ضلع الجبل القريب يكاد من المكان, تفصل بين ما تحتاج إليه لمصرف اليوم والغد، وشراء مستلزمات الحلوى للصباح القادم، وتتلم الباقي إلى ما سبق، طفلها الوحيد يذرع المكان حبواً، تتخيّله صبياً، فشاباً، فرجلاً: إيه يا ولدي متى تريحني من عقد الحلوى وإشاعة رائحة الموز في دارنا..؟.. عبرت بفاطمة الأيام وصغيرها كبر، أبناء جيرانها يلحون عليها بالجلوس في البيت، وجعله يقوم عنها بالبيع، أو بالاتفاق مع صاحب الدكانة القريبة ليبيع حلواها، وهي آن لها أن ترحمهم من سمعة جيران البائعة... لم تعبأ بهم طالما ابنها لم ينبث بكلمة، بينما هو ينكفئ الليالي الطويلة في صيف وشتاء مكة على بصيص النور الذي ترسله عين الفانوس من حوله، وعواء الكلاب في الليالي توحش صمته، بينما هي تغط في النوم، من رهق النهار الطويل... كبر ابنها، تخرَّج في المدرسة، لحق بأول جموعة تضافرت على الاغتراب لمدينة فارهة واسعة ملتهمة، لكنها لن تغلق فمها إلا على وجبة دسمة من النقود، ولن تمنحه ورقة منصوصة باسمه في صفوف حاملي شهادة الجامعة إلا على نور عيني أمه وبسطة حلواها ولسع كفوفها من نار السكر ووقيد (الدافور).. غاب عنها سنوات، وهي تحصد ثمن الحلوى وظهرها قد انحنى، وكفها قد وشمته لسعات النار، وبساطها قد ذاب نسيجه تماماً، وهي تحمل على نفسها ترص القرش فوق الآخر وتودعه الرحالة حيث ابنها، ولسعات الجيران لا تزال تصك أذنيها، حتى بلغت جداراً سميكاً لم تعد تراهم من ورائه... تمرض، وتغيب، وتصمت وتعود وليس من طارق على بابها إلا جارة واحدة تولى زوجها أمر التواصل بينها وبين ابنها... عاد الابن، يحمل درجته العلمية، وانخرط في سلك العاملين الأوائل، وهو لا يكف عن تقبيل رأسها وقدميها ويديها، جمع دخله الريال فوق الآخر لكنه في هذه المرة كان جملة من الريالات لا القروش.. وفي أسرع وقت كان قد ابتاع لأمه دارة جميلة وجاء لها بزوجة أجمل... قال لها: هذا حصادك، وأول المدعوِّين للزيارة جيراننا...
|
قلت للسيدة التي عبرت بي في مقال الأربعاء: هذه مرآة أخرى يا سيدتي، كلاكما زرع، لكن المرء حين يكبر هو المسؤول عن سلوكه، ذلك لأنه يملك العقل، لم تكوني أقل عطاءً من هذه السيدة ولا هي أنجح حباً منك.. لكن الأمر كما قلته لها يكمن محصلة في العقل، فهو المحك السائل والمسؤول في الإنسان، ومناط الأمانة فيه، بعد أن يخرج عن مظلة والديه لمضمار الحياة.
|
|
وأُعقب على ما ورد من بعض الأعزاء القراء حول نقطة نتفق جميعنا في شأنها، وهي أن المرء على ما نشأه والداه، وقديماً قال الشاعر:
|
(وينشأ ناشئ الفتيان منا |
على ما كان عوده أبوه) |
لكن يبقى لكل قاعدة شواذ، ولعل المرء حين يواجه محك الاختبار في شأن البر والعقوق ينجو، لكن لا ينجو ولا ينجح إلا ذو عقل، فاقتدار، فطاعة.
|
|
اللهم أعنا على طاعتك.. وارزقنا البر.. ووفقنا للنجاة.
|
|