الهموم المتعلقة بالدراسات العليا على المستوى المحلي في مختلف الجامعات والمؤسسات التعليمية الوطنية كثيرة ومتشعبة والحديث عن هذا النوع من الدراسات تتعدد أوجهه ومشاربه وشئونه بشكل يصعب معه بل ويستحيل على من له اهتمام بهذا التعليم أن يقدم تحليلاً متكاملاً..
وافياً يزود قارئه بما يحتاجه من معلومات بخصوص هذا الموضوع من خلال مقال قصير كهذا.
غير أن المطلع ذي الصلة والتماس بالدراسات العليا على المستوى المحلي في إمكانه أن يضع يده على العديد من الملاحظات العامة التي ترد كثيراً عند تناول هذا الموضوع ذي الأهمية البالغة. مثل هذه الملاحظات ينبغي أخذها بعين الاعتبار فالحاجة الملحة لأن يكون للجامعات ومؤسسات التعليم والتدريب العليا دور أكبر في التنمية الوطنية ككل وخصوصا التنمية الاجتماعية والاقتصادية والتربوية منها، تفرض النظر لبرامج الدراسات العليا بعين التدقيق والتقويم والتغيير خصوصا عندما نشاهد تسنم كثير من مخرجات الدراسات العليا لمناصب قيادية في مختلف القطاعات الحكومية والخاصة وهو ما يمثل جزءا من أهمية تناول هذا الموضوع.
أول تلك الملاحظات يتعلق بالتخصصات المطروحة أمام الساعين للحصول على شهادات عليا إذ يتبدى واضحا من خلال الإحصاءات المتوافرة ذلك التركيز المبالغ فيه على تخصصات نظرية معينة لا تحتاجها لسوق العمل الحكومي أو الخاص وتكدس الدراسات العليا فيها - والأمر ينطبق بحذافيره على التعليم الجامعي- مما يجعل من الأمر وكأنه تكريس لواقع مُعاش في التعليم الذي يحتاج بدوره إلى الكثير من الإصلاح والترميم. إذ لم يصاحب التطور الكمي المتمثل في ازدياد أعداد خريجي الدراسات العليا من مختلف الجامعات تطور كيفي (نوعي) في التخصصات التي تنصب عليها اهتمامات هؤلاء الطلاب.
وفي ظل وضع كهذا، تبرز الحاجة للقيام بعملية تقييم للأولويات فيما يخص التخصصات التي ينبغي توجيه القسم الأكبر من الدراسات العليا صوبها ويمكن تحقيق ذلك من خلال عملية تحديد الاحتياجات على مستوى قطاع سوق العمل بشقيه الحكومي والخاص. ما نحتاجه في وطننا العزيز هو تخريج كفاءات مؤهلة لسد الاحتياج في وظائف معينة تتطلب مهارات بعينها في ظل مسيرة التنمية التي يعيشها هذا البلد المعطاء لا أن تتكدس المكاتب ومقار المنشآت الحكومية والخاصة بأعداد إضافية من الموظفين الذين يثقلون كاهل التنمية المحلية دون الاستفادة منهم وتحقيق العائد المطلوب من وراء تأهيلهم من خلال الدراسات العليا ويتحولون بالتالي إلى عبء يعيق التطور وحجر عثرة في طريق النهضة بدلاً من أن يصبحوا إضافةً إيجابية.
هنا لابد من الرجوع إلى الإحصائيات التي تكشف عن جانب كبير من الإشكال المتعلق بأولوية التخصصات في الدراسات العليا فهاهو الأستاذ الدكتور (سالم بن محمد السالم) أستاذ المكتبات والمعلومات بجامعة الإمام محمد بن سعود وصاحب الكثير من الإنتاج العلمي المتعلق بصناعة المعلومات على المستوى المحلي يكشف في دراسة علمية موسعة عدم وجود ارتباط بين برامج الدراسات العليا في الجامعات السعودية والرسائل التي تمت مناقشتها على مدى 40 عاما من جهة، وخطط التنمية في السعودية وخدمة المجتمع من جهة أخرى. وهو يخلص في هذه الدراسة إلى أن موضوعات الكثير من رسائل وبرامج الدراسات العليا التي أجازتها الجامعات السعودية لا تعالج موضوعات عملية واجتماعية معاصرة، ولا تمت للواقع بصلة ولا تساهم في تعزيز المشروعات التنموية التي تنشدها الدولة في الوقت الراهن.
وقد أورد الباحث في سياق دراسته حقيقة أن نسبة كبيرة من رسائل الدراسات العليا كان محورها الأساس مناقشة موضوعات نظرية وتاريخية لا علاقة لها بخطط التنمية، من ذلك علي سبيل المثال أن نسبةً لا بأس بها من رسائل الدراسات العليا هي مجرد تحقيقات لمخطوطات تراثية. وتختصر الأمر مكتباتنا التي تكدست بكم كبير من الرسائل ذات التوجه النظري الذي لا علاقة له بحاجات التطوير والتنمية العملية.
لقد عاب مؤسسات التعليم الجامعي - وخصوصاً تلك التي تقدم التعليم العالي - افتقادها إلى التفاعل المثمر مع المجتمع وغيابها عن مشهده وبعدها عن احتياجاته؛ هذا التواجد خارج السياق المجتمعي تمثل في صورة منه في انعدام الصلة بين حاجات المجتمع ومتطلبات تطوره ونهضته من جهود وبين موضوعات الدراسات العليا من جهة أخرى. وهذا ما أدى إلى هدر كامل للجهود التي كانت تبذل في إجراء الدراسات العليا والتي كان يمكن ن لها أن تصب بشكل أكثر نفعاً وسداً لحاجات التنمية الوطنية. لقد آن الأوان لأن نلتفت إلى التجارب المتقدمة خارجياً وأن نستفيد من الكيفية التي تتم بها إدارة الدراسات العليا في الدول المتقدمة تقنياً وأن ننظر إلى الآلية التي يتم من خلالها اختيار موضوعات الدراسات العليا والأبحاث هناك كي يكون في مقدورنا توجيه دفة الدراسات العليا المحلية في الاتجاه الصحيح.
وثاني تلك الملاحظات مرتبط بآلية اختيار من في إمكانه الإشراف على طلاب وطالبات الدراسات العليا والمعايير التي يتم على أساسها تحديد عضو هيئة التدريس القادر على القيام بأعباء مشرفي الدراسات العليا على أكمل وجه. فالمفارقة المحزنة هي في أننا نلحظ عدم تمكن بعض المشرفين الذين يأتون من دول معينة من المادة العلمية التي يقومون بتدريسها و عدم إلمامهم بأساليب البحث وتقصي المعلومات وكيفية إجراء مختلف أنواع الدراسات ناهيك عن جهلهم بالتقدم التقني فيما يخص مصادر المعلومات. ولعل مرد ذلك يكمن في الأساس العلمي والبحثي الضعيف الذي اعتمدوا عليه في جامعات دولهم التي جاءوا منها. وكي لا أكون مجافياً للحقيقة أو صاحب انحياز في رأيي هذا يكفي الاستدلال بالعديد من الحالات التي راح فيها جهد العديد من الطالبات والطلاب سدىً عند مناقشتهم الختامية أمام لجنة علمية لافتقادهم إلى أبسط مبادئ البحث المتمثل في صياغة فرضيات البحث وأسئلته وأدوات تحليل المعلومات وهو ما يتحمل المشرف مسئوليته كونه لم يكن هو نفسه ملماً بهذه المبادئ الأساسية.
وثالث الملاحظات يرتبط بمصادر المعلومات وهو موضوع تتشعب شجونه ويأتي على رأس قائمة هذه الشجون عدم توافر مصادر المعلومة للجميع وصعوبة توفيرها لمن يبحث عنها ناهيك عن عدم وجود مرجعية معلوماتية يمكن لها أن تجمع مختلف مصادر المعلومات في مصدر واحد. ولعل السبب الأكبر في صعوبة الحصول على المعلومة هو تشتت الجهود المؤسساتية في هذا الصدد إذ إن مختلف هذه المؤسسات تقوم بجهود فردية في توفير بنوك ومصادر المعلومات. هذا الأمر يخالف التوجه الحديث في دمج المصادر وتوحيدها تحت إطار مرجعي واحد يضمن سلامة التخطيط وتوفير التكلفة وزيادة الفاعلية وسهولة توفير المعلومة. وما يحدث حالياً على المستوى المحلي هو تشتت الجهود وتعدد المشاريع وبالتالي الافتقاد إلى التكامل وطغيان التنافر وضياع الأموال في الوقت الذي كان فيه في الإمكان الرجوع للتجارب الدولية المتقدمة في هذا المجال عند التخطيطي المعلوماتي على المستوى المحلي.
وهناك أيضاً الجانب المتمثل بعدم إلمام الطلاب بكيفية الاستفادة من مختلف المصادر المعلوماتية وتوظيفها التوظيف الأمثل في دراساتهم. ويمكن إرجاع مرد الضعف هنا إلى نظام التعليم والتدريب التلقيني الذي يقوم على توحيد مصدر المعلومة في كتاب واحد يقوم الطالب بحفظه دون تشجيعه على التعامل مع أساليب البحث عن المعلومة وإيجاد مصادر الكترونية وتقليدية مختلفة لها والتعامل معها بشكل علمي. وهذا ينعكس سلبا على الطلاب الذين يستمر هذا الضعف معهم مستقبلا في سنوات دراساتهم العليا خصوصا متى ما كان المشرفون عليهم أكثر جهلا منهم بمصادر المعلومات الحديثة.
ما سبق ذكره من عقبات يحتاج ولا شك إلى الكثير من الجهد والطويل من الوقت كي يكون في الإمكان معالجة المشكلة ولعل أولى خطوات إصلاح هذا الخلل يتمثل في إيجاد مركز استشاري مرجعي خاص بمختلف شئون الدراسات العليا بحيث يكون جهة إشرافية أشمل تعمل على تنسيق الجهود المنصبة في هذا المجال كي يكون قادرا على المساهمة في تسيير دفة الدراسات العليا بشكل أكثر إبداعا وخدمة لمتطلبات التنمية الوطنية وتطور المجتمع ونهوضه على مختلف الصُعد وهو مطلوب منه أن يقوم بعملية تقييم للوضع الحالي وأن يستشف المجالات التي يمكن أن تنصب فيها هذه الدراسات وأن يجري دراسات علمية موثقة فيما يتعلق بالمجالات التي يمكن أن تشهد دراسات أكثف. كما أنه ينبغي بمثل هذا المركز أن يعالج الخلل الذي يعتري بنية مصادر المعلومات عبر العمل على توحيد الجهود وربط المراكز والمشاريع المعلوماتية ببعضها توفيراً للجهد والوقت ومنعاً للهدر المالي.
abanom@hotmail.com