ما زلت مسكوناً بهم الوجود الأمريكي غير السوي في العالمين العربي والإسلامي بوصفه وجوداً يتعمد التغيير الجذري لمختلف التكوينات الحسية والمعنوية.
ولما تزل شهوة الحديث عن الظاهر والباطن في الشأن الأمريكي قائمة على أشدها..
..حتى لقد جاء الفصل الثالث من كتابي (أبجديات سياسية على سور الوطن) للحديث عن أمريكا وسياساتها المضطربة في العالم الثالث وانعكاساتها على مختلف وجوه الحياة، وزج المنطقة في حروب ومنازعات ومقاومات عنيفة.
والمسافة السحيقة بين (بوش) و(أوباما) ستزيد من شهوة الحديث.
لقد جاء (بوش) إلى الشرق، وأدار حوارات وألقى كلمات، وها هو (أوباما) يأتي إليه ليجري لقاءات، ويلقي خطاباً أثار الفضول وشغل الإعلام وشتت المواقف، وفرق الناس بين متفائل ومتشائم، والفرق بين المجيئين والخطابين واضح كل الوضوح.. (بوش) يركن إلى القوة، و(أوباما) يركن إلى المبادئ، ذاك يشيع الكراهية والاشمئزاز، وهذا يهدئ النفوس، ذاك يستمد خطابه من حتمية الصدام، وهذا يستمده من احتمال الحوار، والإشكالية في جاهزية التنفيذ وإمكانية تحويل الخطاب من الصدام إلى الحوار، لقد ركن الرئيس الجديد إلى (علم النفس) بمحاولته استدرار العواطف وإزالة الاحتقان والشك وانتزاع أمريكا من المستنقع بكلمات مجاملة محكمة الصنع، ولكنها غير ملزمة، وعلى الرغم من سرابيتها فقد أثارت اليمين المتطرف في أمريكا والصهيونية المتعنتة في إسرائيل.
والخطاب المتقن الإعداد لم يكن مبادرة ذاتية، كما أنه لا ينبئ عن إستراتيجية جديدة للسياسة الأمريكية، وإنما هو على أحسن أحواله (تكتيك) مرحلي لإنعاش (الدبلوماسية) وترميم السمعة، وتحديث أسلوب العمل لا لتغيير العمل ذاته، وداء الأمة العربية في ثوابت السياسة الأمريكية التي لا تقف عند حد المصلحة والكرامة. وعيب مشهدنا السياسي الانجراف العاطفي والعيش في ظلال الحدث لا في متنه. وبراعة (أوباما) المثيرة للفضول ألهت بني يعرب عن الغوص في الأعماق، والتفريق بين (الأنساق) و(السياق) لقد خرج (أوباما) عن (الأنساق) لترميم (السياق)، شأنه في ذلك شأن قائد الطائرة في مواجهة الأعاصير والمطبات الهوائية يعلو ويهبط ويغير الاتجاه، ولكنه في النهاية سيعود إلى خط السير.
والخطاب إذ أخذ بعده القولي يرقب المستهدفون مخاضات العمل بوصفه البرهان على المصداقية وحسن النوايا، ولاسيما أنه يشكل منعطفاً مهماً، وقد أنصت له العالم وثمنه واستوعبه، وأخذه من أطرافه ثناء وإطراء.
لقد أجمل الرئيس خطابه في سبع نقاط هي جماع الأمر كله، جمع بين الارتجال الموزون، والتذكر السريع والتقاط الفقرات مما حوله من أجهزة ببراعة نادرة. وثقة بنفسه، وإيمانه بقضيته وسياسة الاسترضاء أعطته نوعاً من رباطة الجأش، ومكنته من انتزاع الإعجاب، فالرجل جاء وفي جعبته مبادئ إنسانية يود أن يظفر بانتزاع الثقة ليحقق شيئاً منها غير أن المعوقات في (إستراتيجية) السياسة الأمريكية وفي الواقع العالمي كثيرة وعصية، وليس بإمكانه المواءمة بين القول والعمل.
والمحللون السياسيون ستتشعب بهم الآراء والتصورات حول قراءة الخطاب، وسوف تذهب بهم الظنون كل مذهب، ومن حقهم أن يشكوا وأن يترددوا، فالسياسة الأمريكية كلام الليل عندها يمحوه النهار فهي في الغالب تمارس أسلوب الجزر والمد والترغيب والترهيب، ومسرح السياسة عندها مسرح عرائس، فضلاً عن أنها دولة مؤسسات نيابية، المساحة المتاحة فيها للرئيس لا تمكنه من قلب الأوضاع رأساً على عقب، ولو حاول التغريد خارج السرب لدبرت له فضيحة، وها هي (معاداة السامية) أولى المحاولات السخيفة.
وكيف يتأتى لشاب أسود جاء من خارج السياق أن يأتي بنيان السياسة من القواعد، فالسياسة الأمريكية منجز مؤسسات وخبراء وفرق عمل في إدارة الأزمات، وأساطينها يستخدمون المنجز المعرفي للنفاذ إلى الأعماق والرئيس -أي رئيس- لا يمكن أن يتصرف بمفرده، غير أن هناك استعدادات شخصية وبراعة ذاتية في تمرير اللعبة السياسية وظروف مساندة تسوغ الجرعات. والعظمة تتطلب استعداداً ذاتياً، وظروفاً مساندة وتحرفاً سياسياً مغايراً، وتلك المؤهلات لم تتهيأ كلها بالقدر الكافي للأسمر الجذاب.
لقد ورث (أوباما) من سلفه معضلات عدة، فكان بحق أبرع رئيس في أسوأ ظروف.
- نكسة في السمعة.
- وضعف في الهيبة.
- وانهيار في الاقتصاد.
- وحكومة صهيونية متطرفة.
- وأجواء عالمية مكفهرة.
- وشفافية في السياسة العالمية.
وإذا استطاع الرئيس انتشال السمعة، وتوقي النكسة، وثني الصهاينة عن عزماتهم الإجرامية، وإيقاف التدهورات الأمنية في (العراق) و(أفغانستان) وتجاوز المحن والإحن في بقاع كثيرة من العالم في فترته القائمة فإنه سيكون الرئيس الأمثل، وتلك الإنجازات لن تحقق ما يطمح إليه، ولكنها على الأقل ستجنب العالم مزيدا من الويلات، وإذا قدر له البقاء والفوز بفترة ثانية فإن بالإمكان التراجع بأمريكا خطوتين عن حافة الهاوية، وأمريكا التي تريد الاحتفاظ بزعامتها وقطبيتها العالمية لن تتردد في استخدام القوة للاحتفاظ بأقل قدر منها متى هددت مصالحها، وقرار المغامرة تصنعه الظروف الطارئة ومن ثم يكون الرئيس سيئ الحظ مكرهاً لا بطل.
لقد كان (أوباما) ذكياً حين استل السخائم بمزيد من الثناء على الحضارة الإسلامية، وحين حاول انتزاع التصور السيئ للإسلام الذي كرسه سلفه، وكان ذكياً حين لم يجعل من نفسه شرطيا لقمع المغردين خارج السرب وحين لم يصنف العالم إلى ملائكة وشياطين، فخطابه توفيقي امتصاصي حاول فيه تجنب المواجهة الكلامية وتزكية النفس، لقد أعطى مساحات كبيرة للآخر وشاطر العالم مسؤولية الانهيارات عبر كلام لم يترجم بعد إلى عمل. وعلى الرغم من الجاذبية التي اكتسبها شخصياً على الأقل، فهو لم يبتدع قضايا جديدة، ولم يخرج عن المتداول في المشهد السياسي، ولم يضف إلى أي قضية ما لم يكن متوقعاً وممكناً، حاول استرضاء اليهود بتكريس مبدأ الاضطهاد والإبادة وحق الوجود الكريم، كما حاول استرضاء الفلسطينيين بالإشارة الخاطفة لمعاناتهم، غير أنه لم يحدد الحل للقضية العصية لا شكلاً ولا مضموناً ولا زماناً، وإن أشار إلى حتمية قيام دولتين بدون مواصفات محددة، ولم يتعرض للحدود ولا للاجئين ولا لحروب الإبادة وإن أشار إلى القدس بما لا يرضي الطرفين.
وكل الفقرات السبع التي أشار إليها لم يؤطرها، بل تركها مفتوحة لأي احتمال، واستدعاؤه لها وصفي لا أكثر، وإذا كانت القوة العسكرية في (العراق) و(أفغانستان) لم تحقق المطامح ولا الأطماع فإن البلاغة الكلامية قد لا تمكن السياسة من العبور إلى الأهداف بسلام، والمسألة في النهاية تجريب ذكي للترسانة البلاغية إذ لم تجدِ الترسانة العسكرية.
لقد رغب في حل الأزمة الفلسطينية، ولكن اليهود سبقوا إلى سحب الثقة منه، ومن ثم فإن دون ذلك خرط القتاد. اليهود يخادعون المشاهد العالمية بالمراوحة بين التشدد والتسامح، والفلسطينيون لا يتوفرون على وحدة الصف والهدف ولا يملكون الإرادة الحرة، فالداعمون والممولون من الشرق والغرب والعرب والعجم يضعون حق النفوذ شرطاً مسبقاً ليجعلوا الخطاب الفلسطيني مسيراً لا مخيراً، تدار على أرضه صراعات القوى الإقليمية، كما هي في لبنان والصومال وسائر بؤر التوتر العالمي، وتكاد القضية أن تخرج من إطارها وهمها الذاتي لتكون مسرحاً لخطابات متعددة، وتلك فرصة الصهيونية العالمية، ولاسيما أن الحراك الصهيوني منظم ومحكم الصنع ومدعوم من أمريكا بالذات وهو حراك قادر على تفكيك أي خطاب ينطوي على نوايا حسنة كخطاب (أوباما) الذي أزعج الصهيونية، وإذ تكون فترة (أوباما) مضيئة في سياق السياسة الأمريكية من خلال بوادرها إلا أنها لن تكون عملية بقدر الطموحات، هذا إذا تمكن (أوباما) من العيش بسلام دون تصفية جسدية مثلما حصل ل(كندي) أو تصفية سمعة كما حصل ل(نيكسون) ومن حق العقلاء والخبراء أن يتوقعوا أسوأ الاحتمالات، فكل رئيس يحاول شق عصى الطاعة لا بد أن يمتحن امتحاناً عسيراً وسلسلة الفضائح المدبرة شواهد إثبات.
لقد فتح الخطاب الخليط بوصفه الحدث الأهم شهية الأطراف كلها ولكن الرئيس المثير إلى حد الإزعاج سيعود إلى قواعده ناجياً ببدنه وكل شيء على ما هو عليه، احتلال، وقتل، وحصار، واستيطان، وتوتر عالمي، فكل الأطراف المقصودة بالخطاب لم تبد استجابة فورية لتطلعات الرئيس، وإن تفاءل الفلسطينيون، وفوق تلك العقبات فإن مجمل المؤسسات التشريعية في أمريكا ستمر كل كلمة من كلمات الخطاب التي نيفت على ستة آلاف كلمة على أجهزتها لتأخذ ما تشتهيه المصلحة الأمريكية وتلقي في سلال المهملات ما لا يحقق المصالح والكرامة، وإن أعطت الضوء الأخضر لمجرد الاستهلاك وتهدئة النفوس.
لقد جاء الرئيس بكلمات متفائلة ولم يأت بقرارات ناجزة، جاء بوعود ولم يأت بعقود، وتلك إشكالية كل رئيس. إن هناك واقعاً لا يمكن حلحلته بكلمات مجاملة، واقعاً تضافرت على تعميقه سياسات ومصالح ولعب ومؤامرات طويلة الأجل، ومتى فرض الواقع نفسه أصبح من المتعذر انتزاعه بكلام معسول، لا بد من العمل الجاد لاستعادة الأوضاع.
لقد جاء الأمريكان إلى العراق وهو يعيش وضعاً آمناً على الأقل ونقلوه من واقع إلى واقع اختل فيه الأمن واحترب فيه الفرقاء واستفحلت الطائفيات وصودرت الحريات، ومع أن أمريكا هي التي خلقت ذلك الواقع المؤلم إلا أنها غير قادرة على إعادة المياه إلى مجاريها، والذين بكوا من صدام حسين يبكون اليوم دماً عليه، ولك أن تقول مثل ذلك عن (أفغانستان) وعن (الصومال) وسائر بقاع العالم المتوترة، الفراغ الدستوري وسقوط الشرعية من صنع القوى الكبرى، وحين تندلق اقتاب الفتن لا يستطيع أحد لملمتها.
إن خطاب (أوباما) له ما بعده، وما ظفر به من تحليلات وتعليقات وإعجاب سيطويه الزمن، ويستدبره الناس لينظروا ماذا يفعل وما هو قادر على فعله، وكل ما أتمناه ألا يكون خدراً ينساب في أوصال الطيبين، إن صناعة السلام وإشاعة العدل لا يتمان بالأماني، ومن أراد السلام فليستعد للحرب، والحرب ليست فقط بالسلاح، إنها بالاقتصاد.. والعلم والصناعة وتوفير الأجواء المناسبة من حرية واستقرار وعدل ورخاء وقوة واعتصام بحبل الله وصناعة محكمة للإنسان والأرض واستذكار لقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.