من الطبيعي أن يختلف الناس في آرائهم ونظرتهم للحياة، ولو لم يكن هناك اختلاف في وجهات النظر، لأصبح الجميع نسخة واحدة مكررة، ولافتقدنا ميزة تكامل الآراء وتلاقح الأفكار والاستنارة بآراء الآخرين. والشيء الطبيعي أن يحترم كل منا رأي الآخر، حتى لو بدا غريباً أو غير صائب، لكن احترامه يدل على تقدير الآخرين، فلا وصاية على الناس، بل لا بد أن يقوم التعاون بين أفراد المجتمع على أساس الحوار والتكامل والاختلاف الذي يقود إلى جلاء الحقائق وتبصير كل طرف بما لم يكن يبصره من وجهة النظر الشخصية الواحدة.
ولا يستطيع أحد ادّعاء امتلاك الحقيقة واحتكارها وأن الآخرين لا يمتلكونها، بل العافية تكمن في اختلاف الآراء وتباين وجهات النظر، كما أن الإصابة بعمى الذاتية هو من مغذيات الفتنة والضلال، والعتمة التي لا ترى الآخر تقود الخطوات المؤدية إلى الهاوية، وليس من مرشد في ظلمات الطريق الحالكة نحو الحقيقة غير الرأي الآخر الذي قد يكون على حق بحكم قربه أو متابعته للحدث موضع الاختلاف، لكن الإصرار على الرأي يعمي البصيرة ويصرفها عن الحقيقة حتى تضيع في أتون التعصب للرأي والتقوقع في لجج الذاتية.
إن منهج الاختلاف في الرأي دليل التحضّر ونضج الفكر والتجرّد من الأنانية ورؤية الأشياء من جانب متسع وليس بعين واحدة فقط، ويمثّل الاختلاف إضاءة ناصعة تتكشّف بها سبل المعرفة ودلالات الحقيقة الدامغة التي لا يدّعي أحد تفرده بحيازتها، ولك أن تفكر كما تشاء وكيفما تريد، ولكن لي الحق أن أفكر بالطريقة التي أرى أنها أقرب إلى الحقيقة، وأتصور أنها أقرب إلى الصواب وتؤدي إلى ما أصبو إليه من أهداف مشروعة.
إن تنمية ثقافة الاختلاف في المجتمع من دلالات العافية والصحة الفكرية والإنسانية والاجتماعية، كما أن الصورة (الرؤية) واحدة لكنها متعددة الجوانب بيد أنها مكتملة في الواقع، ولا يملك أحد مهما كان أفق الرؤية لديه أن يدّعي الحصول على تلك الصورة الكاملة، ولكن رؤيتك مع رؤية الآخرين تكمل لك ما نقص من الصورة لديك، لذلك يعتبر الرأي المخالف لك مكملاً لما تحتاجه من رأي حتى ترى الأمور بشكلها الكامل ومن موقع أكثر قدرة على الرؤية.
أي إضافة جديدة إلى حجم الصورة الماثلة أمامنا وشكلها يجب ألا ينظر إليها بغرابة أو تصدر بشأنها أحكام إعدامية، بل يرجى الاحتفاء بها لأنها في واقع الأمر تعكس جانب الصورة من الاتجاه الآخر الذي لا نستطيع أن ننظر منه، فهذه الإضافة وفرت لنا إمكانية النظر من كل الجوانب في آن واحد وقدمت لنا ما يحمله الجانب الخفي من ملامح، فهي بالتالي تشكل إضافة مهمة لإكمال شكل الصورة الذي ظل ناقصاً طالما كنا ننظر إليه من زاوية واحدة.
كلنا يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، فلنتعاون فيما نتفق حوله، وليعذر بعضنا بعضاً في ما نختلف عليه، وبهذه الطريقة ستمخر سفينتنا عباب بحر الحياة آمنة محققة الآمال بكل نجاح ونجني ثمار هذا التفكير نماءً وحضارةً واستقراراً وتفوقاً. وهذه الروح مهمة جداً في حياتنا، لأنها تنمي لدينا الجوانب الإيجابية، وتوقظ النزعة التصحيحية لواقعنا، وتضيء لنا خبايا الزوايا المظلمة التي لن نراها في يوم من الأيام ما دمنا معتمدين على رؤيتنا الذاتية ومنكرين لما سواها من رؤى. لكن نظرة الاعتراف بواقع الاختلاف والائتلاف وضرورته تطرد السلبية من حياتنا، وترتقي بواقعنا إلى أروع صوره الخالية من الوهم والمصاحبة لروح التطوير، ومن خلالها نستطيع أن نصل إلى تصور سليم للأمور لا نضلل فيه أنفسنا ولا نوهمها ونخدعها ولا نعدم فيه أفكار غيرنا أو نحتقرها أو نتهمها بالقصور والشلل، بل هي مدعاة للائتلاف والتعاون والتكامل من أجل الوصول إلى الحقيقة ومن أجل التطور والنماء والرفاهية بأسلوب نظيف ونزيه يعتمد على تمازج وتلاقح أفكار الجميع.
ولا شك أن وسائل التقنية الحديثة وإفرازاتها، والتوسع المعرفي يفيد في إفساح المجال رحباً أمام تعدد وجهات النظر، وتوفر المعلومة وسرعة تناقلها يسهم بفاعلية في وضع الحقيقة أمام الجميع بلا لبس أو غموض، وهذا يساعدنا في توظيف نقاط الاختلاف لتأسيس ائتلاف قوي يسند كل الجهود الرامية إلى الارتقاء بواقع المجتمع وبناء الحياة الكريمة بكل أبعادها من خلال اكتمال الصورة متعددة الجوانب بمخرجات فكرية متعددة الآراء تمثّل ائتلافاً ناتجاً من اختلاف وجهات النظر.