وكل هذا لا يهدم شيئاً من أخلاق إخوانه؛ ولما كان أفضل الأنبياء أولو العزم من الرسل كان محمد - صلى الله عليه وسلم- أشدهم عزماً بتثبيت من الله ميَّز به فضلَه، ولم يثلم به خلق إخوانه، وقد عاتبه ربُّه بعتاب شديد في سورتي يونس والإسراء وغيرهما: إما ليجرِّده للعبودية، وإما لخطإ في الاجتهاد كما في سورة عبس وأسرى بدر؛ ولنعمة ربه عليه بالتفضيل لم يعاقبه بخطإ في الاجتهاد كما في تطهير الله لعبده ورسوله يونس عليه السلام؛ وإنما أظهر الله له العاقبة ليعتبر؛ وذلك بكارثة أحد.. والحكم على الرسل عليهم السلام بأن كل واحد منهم يلتمس غرفاً من بحره ورشفاً من ديمه كلام أيضاً يقلق الوجدان، فلا حقيقة لهذا في الشرع، بل هو عليه الصلاة والسلام مأمور باتباع هديهم، فكان له الفضل بتجرُّده للهدي.. وأما في الشفاعة العظمى فهم يرجون الله ولا يلتمسون من محمد - صلى الله عليه وسلم- رجاءً لا يليق إلا بالله، وإحالتهم الشفاعة من رسول إلى رسول؛ لتُعلم أفضلية كل واحد، وأنْهَوها إلى محمد - صلى الله عليه وسلم- وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين؛ للعلم بفضله، وتواضعهم لربهم فيما رأوا أنهم أخطأوا فيه اجتهاداً؛ فهذا إحالة منهم لالتماس الناس منه الشفاعة، فسألوه أمراً يقدر عليه، فقدَّم لذلك بالتضرع إلى الله - وفَتَح اللهُ عليه محامدَ كثيرة - في سجوده؛ ليأذن له بالشفاعة، وما كان بأبي هو وأمي ليفعل ذلك لولا أنه علم من شرع ربه أنه سيد ولد آدم يوم القيامة.. وإذا كانت إحالتهم عليهم الصلاة والسلام إلى محمد - صلى الله عليه وسلم- تتضمن طلبهم مع الناس أن يشفع عند ربه؛ فهذا إقرار منهم بأفضليته، وطلبٌ يتعلق بقدرته التي أقدره عليها بعد أن يستأذن ربه، وليس طلباً لما لا يقدر عليه إلا الله، وليس في هذا دلالة على أنهم التمسوا غرفاً من بحره ورشفاً من ديمه.. وأما في الدنيا فهم بعثوا قبله عليهم جميعاً الصلاة والسلام؛ فكيف يكون بحره وديمه مرجعاً لهم وهم إنما يتلقَّون الهدي من وحي ربهم؛ فيا أيها الوالدان الكريمان: إنني أشهد أن محمداً - صلى الله عليه وسلم- أفضل الخلق، وأستوحش مما يكرهه ويأباه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من تفضيله على يونس - وليس هو عليه السلام من ذوي العزم من الرسل -، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام أفضل الخلق بدون لجوء إلى مقارنة تقتضي تنقُّص إخوانه عليهم السلام، وتدَّعي ما ليس من الشرع من التفضيل في الخلق بفتح الخاء المعجمة، وأنهم يلتمسون من بحره وديمه؛ ولهذا أشهد أنه سيد ولد آدم، وأفضل الخلق للنص، وأستوحش من كلمة (أشرف المرسلين)؛ لأن الشرف غير التفضيل والسيادة؛ فلا نتعدى نص الشرع؛ فإن كنتما حفظكما الله ترتاحان لهذه المقارنة المتنقِّصة لإخوانه فلا ترتاحان حفظكم الله إلا ببرهان من الله يرفع عنكم به الحرج، وتقيمان به الحجة على مَن لم يرتحْ لهذه المقارنة.. ثم إن التفضيل حفظكما الله يحصل بأقل درجة، فإبراهيم عليه السلام خليل الرحمن الذي كان أُمَّةً وحده، واستسلم للبلاء العظيم في ذبح ابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، وأُمِر محمد - صلى الله عليه وسلم- باتباع ملته، والدعاء بالصلاة الإبراهيمية، فالله سبحانه فضَّل محمداً - صلى الله عليه وسلم- بأدنى درجة كبعض كذبات الخليل للضرورة الاجتهادية التي لم يعاتبه ربه عليها، وطلبه أن يريه ربه كيف يُحيي الموتى ليطمئن قلبه مع أنه ذو اليقين العظيم لما جنَّ عليه الليل، ولما كسر الأصنام، ولما أسقط كل الأسباب واعتمد التوكل على الله لما شرع قومه في إلقائه في النار؛ فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وهكذا إفحامه بالبرهان الكافر الذي حاجَّه، فقطع حُجَّته بأن يأتي بالشمس من المغرب ليشهد الناس ذلك؛ فبُهت الذي كفر؛ فكيف يحل بعد هذا التعبير بأن إخوانه (لم يدانوه)، والفرق بينهم وبينه درجات، كما أن معظم تفضيل الله بجِبِلَّة واصطفاء وعصمةٍ له في نفسه، وعصمةٍ من الناس.. وبعض الأنبياء عليهم السلام قُتلوا، وليس في ذلك ثلم لسيرة إخوانه عليهم الصلاة والسلام، ولا حجة على تقصيرهم في الكسب والطاعة.
وخامسها: أن الله أظهر بيِّنات عند مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم-؛ فقد صح في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه رؤيا أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حين وضعته بأبي هو وأمي أنها رأت نوراً أضاءت له قصور الشام.. قال - صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث: (إني عبدالله، وخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدلٌ في طينته، وسأخبركم عن ذلك: دعوةُ أبي إبراهيم، وبشارةُ عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت.. وكذلك أمهات النبيين يرين، وإن أم رسول الله صلى الله عليه وعليهم جميعاً وسلم رأت حين وضعته نوراً أضاءت له قصور الشام).
قال أبوعبدالرحمن: السياق يدل على أن (وكذلك أمهات) إلى آخر الكلام من كلام العرباض رضي الله عنه، وهو في حكم المرفوع؛ لأنه لا مسرح فيه للاجتهاد، بل جاء مرفوعاً بعضه من غير هذا الوجه.. وهذا المولد النبوي الشريف حق، ولم يُرَتِّبْ عليه الشرع أيَّ تعبُّدٍ كهذه الطقوس التي نراها في الموالد النبوية، وإنما نأخذ الدلالة على بركته - صلى الله عليه وسلم-، والدلالة على رسالته؛ فمن خاف مقام ربه فليقارن بين براهين الشرع وما هو مستحدث، ثم أستودع الله ضمير كل مسلم أن يمنحه الطمأنينة لمراد الشرع، والوحشة مما خالفه.
وسادسها: نجد مثلاً المجلد السادس من دلائل النبوة للبيهقي رحمه الله تعالى - وهو مجلد ضخم - كله عن معجزات (آيات) للرسول - صلى الله عليه وسلم-، ومعظمها وجمهرتها تقوم به الحجة ثبوتاً ودلالة؛ وإنما المستنكر قوله رحمه الله تعالى: (فإنه (عليه الصلاة والسلام) أكثر الرسل آيات وبينات، وذكر بعض أهل العلم أن أعلام نبوته تبلغ ألفاً) (44).
قال أبوعبدالرحمن: لا خير في التكثُّر بما لا يصح، ومن فضل الله على المؤمنين من أمته دخولهم في دين الله أفواجاً ولم تتواتر عليهم آيات حسية كآيات بني إسرائيل التي لا مثيل لها، بل حصل لهم الإيمان من آيات بلا تعنُّت، والأمة إذا جاءتها آيات كبرى ثم تعنتت في طلب الآيات تعظم مصيبتها بالوعيد كقول الله سبحانه عن الحوارييين في طلبهم تنزيل المائدة (قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ) (115) سورة المائدة.( 45)
إن آيات عبدالله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم- في حياته قد تكون أكثر كَماً، ولكنها ليست بأعظم من آيات موسى وعيسى عليهم السلام.. ثم كَثْرة آيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إنما هي في سُنَّتِه وفي كلام ربه (وكلاهما ذكر وحكمة محفوظان) كالإخبار عن بعض الغيب؛ لأنه خاتم النبيين، وأمته (أمة الإجابة من المؤمنين، وأمة الدعوة من الكافرين) تشمل جميع الثقلين منذ بعثته ؛ فدينه باقٍ إلى يوم القيامة عامٌّ للثقلين.. وباعِثُ كلام البيهقي رحمه الله تعالى إنما هو المفاضلة بين محمد - صلى الله عليه وسلم- وإخوانه عليهم الصلاة والسلام، والتفضيلُ حق، واتخاذ ذلك في سبيل المفاضلة مُوحِش.. وامتداد الإعجاز في دين الإسلام ضرورة دينية؛ إذْ لم يبق بعد خاتم الأنبياء عليهم السلام إلا ورثتهم من العلماء؛ فتكون النتيجة أن الله امتنَّ على عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم- بفضل لم يكن من كسبه، وهو تفضيله بدين مهيمن خالد ممتد إعجازه.
وسابعها: أنه صح الخبر في كتب الصحاح وغيرها من حديث أبي هريرة وجابر بن عبدالله رضي الله عنهما: أنه - صلى الله عليه وسلم- قال: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قَبْلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية؛ فجعل الناس يطوفون به ويحجون له ويقولون: هلا وُضعت هذه اللبنة ؟.. قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين).. وهذا الحديث يوردونه في مَعْرض المفاضلة بين محمد - صلى الله عليه وسلم- وإخوانه عليهم الصلاة والسلام، وهذه فضيلة وهبية لا كسبية؛ بأن أنزل عليه ديناً مهيمناً على ما قبله من الأديان، لا لنقص في دين الله الذي أنزله على الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ لأن الله جعله كافياً لأمة كلِّ رسولٍ في عهدها المحدَّد، بل لأن ذلك من ضرورة الإسلام لعمومه وخلوده.. وقد قلت كثيراً: (الإيمان بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم- أفضل الخلق واجب)، ولكن سياق هذه الأفضلية في المقارنة بما يقتضي التنقص لإخوانه من النبيين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام موحش ولا يجوز.. وقد قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى عن موضع اللبنة: (فإن شريعة كل نبي بالنسبة إليه كاملة؛ فالمراد هنا النظر إلى الأكمل بالنسبة إلى الشريعة المحمدية مع ما مضى من الشرائع الكاملة)(46)؛ فهذا هو الحق إن شاء الله تعالى.
وثامنها: برهاني على أن قول معاليه: (ولم يدانوه) غير صحيح شرعاً، بل فيهم من يدانيه، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يرتفع بدرجات يفضل بها؛ فتحصل الأفضلية، ويمتنع الحكم بارتفاع المداناة.. برهاني على ذلك الحديث الصحيح في البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: عن النبي - صلى الله عليه وسلم-: (أول من يُكسى يوم القيامة إبراهيم)(47) عليه السلام.. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: (ولا يلزم من خصوصيته عليه السلام بذلك تفضيله على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم-؛ لأن المفضول قد يمتاز بشيء يُخَصُّ به، ولا يلزم منه الفضيلة المطلقة)(48).
قال أبوعبدالرحمن: لإبراهيم عليه السلام خصائص كريمة يرتفع بها امتناع المداناة.. ويتحقق بخصائص محمد - صلى الله عليه وسلم- أفضليته.. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله عن خصائص إبراهيم عليه السلام: (وقد أتيت على ذلك بأدلة في كتابي إقامة الدلائل على معرفة الأوائل) (49)؛ فيا أيها الأحباب: إن عدو الله الشيطان الذي يُشامُّنا في صلاتنا، ويحاول جاهداً بتربُّصٍ ومحاولة من غير يأس تلبيسها علينا؛ فيذكِّرنا ما كنا نريده قُبيل الصلاة، ويصرفنا إلى ما كنا نفكِّر فيه من شؤون دنيانا، وربما حاول قطع صلاتك بتذكيرك ما يضحك؛ فتضحك، وربما أدخل عليك الشرك في الحياء من مخلوق وأنت أمام الله تُخلص الحياء له؛ فيذكِّرك بموقف لك مع مخلوق يُخجلك؛ فتغمض عينيك، وتقبض أصابعك من شدة الحياء وأنت في موقف تخلص فيه الحياء من الله.. ولا يكاد يسلم من كيده إلا مصارع قويٍّ يَصْدُق اللجوءَ إلى الله والتوجه إليه؛ فتضع يديك على أعلى صدرك - وهو السنة، وهو أدنى إلى الخشوع -، ولا يتعدَّى بصرك في كل صلاتك موضع سجودك، وتُكملُ الاستعاذة في القعود، وتكثر التسبيح في السجود، وتكثر الاستغفار في الجلوس، وتباعد بين رجليك في القيام بقدر ما يحصل لك الاتزان؛ فلا تملَّ ولا تتعب، وتكثر التهليل في التشهد الأخير، ولا تعجل في التلاوة ونُطْق الدعاء، ولا في آماد أعمال الصلاة؛ فإن استخفَّك بالعجلة في موضع فَكِدْه بالأناة في موضع آخر، وأضمر النية بأن جهادك له وإن أنساك مرة جزءٌ من عبادتك لربك، وأن سجود السهو إرغام لعدوك؛ فإن كنت تصلي على فراش يُشغل الذهن فألقِ عليه سجادة بيضاء، أو قماشاً أبيض؛ وبهذا يخنس عدو الله، وتمحق كيدَه، وتزيده حسرة وأسفاً؛ ولهذا كان شيطان المؤمن هزيلاً.. ومَكِّن الأعضاء السبعة في السجود، ولا ترصَّ جبهتك رصاً قوياً في السجود، بل اجعل لراحتيك نصيباً من حَمْل جسمك؛ فقد صح من حديث رسول الله مَدْح المُخِفِّين في السجود، والمراد عدم شدة اتكاء الجبهة في السجود.. إن عدو الله الذي هذا شأنه إذا يئس لجأ اللعين إلى الدخول عليك من جهة الدين؛ ليوقعك في الغلوِّ بعد أن عجز عنك في التقصير، فاحذر عدوك وعدو أبويك آدم وحواء عليهما السلام، ولن يتحقق الحذر إلا بالبراءة من الهوى وأعراف البلدان والمجتمع والعوام، وإمعان النظر في البراهين والشُّبه؛ فإن الحق أبلج والباطل لجلج، وهل بين الاتباع والابتداع سوى خيط دقيق يمحوه تلبيس إبليس وإن عَرُض.
وتاسعها: أنه مضى قول عبدالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم-: (إني عبدالله وخاتم النبيين وإن آدم لمجندل في طينته...).. هذا حديث العرباض رضي الله عنه، وهو صحيح أيضاً عن طريق ميسرة الفجر.. قال الحافظ ابن حجر عن ميسرة:(ميسرة الفجر صحابي ذكره البخاري والبغوي وابن السكن وغيرهم في الصحابة (رضي الله عنهم)، وأخرجوا من طريق بديل بن ميسرة: عن عبدالله بن شقيق: عن ميسرة الفجر قال: قلت: يا رسول الله: متى كنت نبياً ؟.. قال: وآدم بين الروح والجسد.. وهذا سند قوي، لكن اختلف فيه على بديل بن ميسرة؛ فرواه منصور بن سعد عنه هكذا، وخالفه حماد بن زيد فرواه عن بديل: عن عبدالله بن شقيق قال: قيل: (يا رسول الله) لم يذكر ميسرة؛ وكذا رواه حماد: عن والده، وعن خالد الحذاء كلاهما: عن عبدالله بن شقيق.. أخرجه البغوي، وكذا رواه حماد بن سلمة: عن خالد: عن عبدالله بن شقيق قال: قلت: يا رسول الله.. أخرجه البغوي أيضاً، وأخرجه من طريق أخرى عن حماد فقال: عن عبدالله بن شقيق: عن رجل قال: قلت: (يا رسول الله)، وأخرجه أحمد من هذا الوجه، وسنده صحيح.. وقد قيل: (إنه عبدالله بن أبي الجدعاء الماضي في العبادلة، وميسرة لقب)(50).
قال أبوعبدالرحمن: هذا الاختلاف في السند لا يضر؛ فكلاهما رضي الله عنهما صحابيان يصح منهما سماع رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، ورواية بديل هي الراجحة إسناداً، وقول ابن شقيق رضي الله عنه في بعض الروايات (عن رجل) يكون الإبهام زائلاً بالإسناد الأصح، وهو أن ذلك الرجل هو ميسرة.. وشُوِّه هذا الحديث الصحيح بروايات مخالفة في كتب الموضوعات مثل: (ولا آدم (عليه السلام)، ولا ماء، ولا طين.. وهو صحيح المعنى؛ لأن تقدير الله للسموات والأرض بما فيها خَلْق آدم عليه السلام كان قبل خلقهن بخمسين عاماً؛ فهذا يشمل رسالته عليه السلام، ورسالة كل رسول، وما قُدِّر على كل مخلوق؛ وإنما بيَّن عليه السلام علم الله المحيط بأن عبده ورسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين قبل أن يُخْلَق أبوالبشر.. ثم إن عوام الصوفية هداهم الله تمسكوا بحديث باطل هو:(كنت أول النبيين في الخلق، وآخرهم في البعث)(51).
ونبَّهني أحدُ المشايخ الفضلاء إلى أنه قد يُراد بَعْثُه - صلى الله عليه وسلم- رسولاً، وليس المراد بعثه يوم القيامة.
قال أبوعبدالرحمن: لو صح هذا الاحتمال فإنه لن يرفع بلايا الخبر، ولا يجعله حجة.. ولكن هذا الاحتمال لا يصح، والبرهان على ذلك أمور:
أولها: أن الخبر هالك سنداً.
وثانيها: أن الخبر محال باطلٌ متناً؛ لأن محمداً - صلى الله عليه وسلم- ليس أول النبيين خَلْقاً؛ لأن الخلق التخلُّق ونفخ الروح معاً، ومحمد - صلى الله عليه وسلم- جاء بعد النبيين عليهم الصلاة والسلام بهذه الصفة.
وثالثها: أن البعث في لغة العرب والشرع يُطلق على ثلاثة أشياء هي الإحياء والنشور بعد الموت، والإرسال، وإرسال شيئ مع حامل له؛ فأما البعث بعد الموت فيأتي بلا قرينة كقوله تعالى عن دعاء إبراهيم عليه السلام: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) (87) سورة الشعراء، وهكذا جاء البعث في هذا الحديث الباطل بلا قرينة؛ فالمراد الإحياء يوم القيامة.. كما أن البعث جاء مقابل الخلق؛ فسياق الحديث عن إحياء من كان أول النبيين خلقاً.. ولو كان المعنى آخرهم بِعْثَةً للزم منه عكس هذا الحديث الباطل، وهو أنه آخرهم خلقاً؛ لأن البِعْثَة لا تكون إلا بعد الخَلْق؛ فهو إذن عليه الصلاة والسلام آخرهم عليهم الصلاة والسلام خلقاً وبعثة.. وأما البعث بمعنى الإرسال وما في حكمه فيأتي بدلالة من السياق كما في قوله تعالى:(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا)(247) سورة البقرة، فقوله: ( لَكُمْ) و (مَلِكًا) دلالة على أن البعث بمعنى إرساله ملكاً لا بمعنى إحيائه، ومثله قوله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (164) سورة آل عمران؛ فقوله: (فِيهِمْ) و (رَسُولا) و(أَنفُسِهِمْ) دلالة على أنه بَعْثُ إرسالٍ لا إحياء، وهكذا قول المسيىءِ صلاته: (والذي بعثك بالحق نبياً).. وأما البعث بمعنى إرسال الشيئ مع حامله فلا يُفهم إلا بقرينة وهي الرابطة.. قال في القاموس وشرحه: (بعثه أرسله وحده، وبعث به أرسله مع غيره (مثل: بعثتُ إليك بالكتاب مع فلان).. ومحمد - صلى الله عليه وسلم- خير مبعوث ومُبْتعث)(52).
ورابعها: أن المستدلَّ بذلك الحديث الباطل أراد معنى البعثة لا الإحياء كما سيأتي من قول الشيخ أسعد محمد سعيد: (وابتعاثهم لهداية الخلق فمتأخر).. إلا أن المستدلين بهذا الحديث ممنوعون من تفسير البعث هنا بمعنى البعثة؛ لأنه ليس من لغة العرب دلالة البعث على معنى البعثة بلا قرينة.
قال أبوعبدالرحمن: قد يرد في دين الله ما تحار فيه العقول لغيبيَّته؛ فيترك علم حقيقته كيفيةً إلى عالم الغيب والشهادة ما دام أنه لم يرد نص بتفسيره، وأما المحالات فمعاذ الله أن يرد في دين الله ما هو محال إحالة تناقض أو تضاد، وهذا النص محال معناه بالشرع؛ لأن الله سبحانه أخبر بأن آدم عليه السلام أبوالبشر، وصحت النصوص باستخراج ذريته من ظهره كأمثال الذر، وأن من آباء محمد - صلى الله عليه وسلم- إسماعيل وإبراهيم ونوح وآدم عليهم السلام؛ فاستحال بقطعي النص أن يكون خُلِق قبل آبائه، وقبل آدم أبوالبشر.. هذه أول مخالفة للقطعي، والمخالفة الثانية أنه صح الخبر بأسانيد لا مغمز فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أول الناس تنشق الأرض عن جبهته الكريمة يوم القيامة، وفي هذا دحض لهذا الخبر الباطل المحال: (أنه آخر النبيين عليهم الصلاة والسلام في البعث !!).. ومدار هذا الحديث على سعيد بن بشير وهو ضعيف، ورواية الحسن رحمه الله معنعنة، والذين خالفوه وقفوه على قتادة؛ فكم بينه وبين رسول الله ? من جيل؟.. فاكتسب هذا الخبر المحال صفة الضعيف، ثم اعلموا أيها الأحباب أن الحديث الضعيف لا يكون فيه كذاب، بل يكون فيه رجال لم يُسَمَّوا، وهذه صفة المرسل والمنقطع، وفيه رجال لا يوثق بروايتهم لسوء حفظ أو وَهْم أو اختلاط أو اختلاف حاله إذا حدث من كتاب أو من حفظه، أو لآفة لحقت كتابه.. إلخ.. والحديث الضعيف يقتضي التوقف إذا لم يرد شواهد لصحته أو بطلانه، وهذا الحديث خالَفَ قطعيات شرعية، وأنتج محالات شرعية عقلية؛ فكان حكمه ههنا أنه باطل بيقين سواء أعلمنا وجه الخطإ عند الرواة أم لم نعلم.. والمحقَّق ههنا أن ما بعد قتادة في رواية غير سعيد بن بشير غير معروف يحتمل كذبه، ويحتمل عدم الثقة بنقله كأن يكون المجرَّبُ من روايته كثرةَ الغلط؛ فيا قوم لوذوا بالنور من قواطع الشريعة؛ وبهذه الأولية غلا عوام الصوفية؛ فزعموا أن الله خلق الكون من أجل محمد صلى الله عليه وسلم؟!!.. وحسبنا الله ونعم الوكيل.. وأبونعيم عفا الله عنه عنده تدروشٌ وتساهلٌ في النقل، ولهذا أورد هذا الحديث الباطل المحال، ولم يذكر علله إسناداً أو متناً؛ ليُعلَم بطلانه؛ فهذا إسقاط في التوثيق، وعنده إسقاط في الدلالة؛ فقد عقد مقارنة غير محمودة بين محمد - صلى الله عليه وسلم- وإخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأطال؛ فكان من إسقاطه في الدلالة زعمه أن الله سبحانه تولى الردَّ على المشركين في اتهامهم لمحمد -صلى الله عليه وسلم- بالسحر والجنون، وأن إخوانه عليهم الصلاة والسلام دافعوا عن أنفسهم(53)، ومع أن هذه مقارنة هجينة بمنطق الشرع فقد أسقط مثل قوله تعالى عن موسى الكليم عليه السلام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا) (69) سورة الأحزاب؛ فهل في الدفاع عن موسى عليه السلام أعظم من تبرئة الله له؟.. ثم إن الاستقراء في هذا الموضع لا يصح؛ لأن الله سبحانه لم يخبرنا عن كل الرسل عليهم السلام، ولم يخبر بكل أحوال رسول من الرسل الذين قص عنهم، ولكن العموم دفاع الله عنهم كما في قوله سبحانه عن موسى وهارون: (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (46) سورة طه، وقوله:(إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (51) سورة غافر، وقال سبحانه وتعالى عن نوح عليه السلام: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ) (37) سورة هود (سورة هود-3، والمؤمنون-27)، وليس وحي الله إلى نوح عندنا، فلا يُنفى منه أن الله لم يردَّ على قومه دفاعاً عنه، وهكذا بقية الرسل عليهم الصلاة والسلام.
وعاشرها: أن عبدالله ورسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم- لم يُكاثر إخوانه عليهم السلام؛ وإنما شكر الله، وذكر فضل أمته - مع قِصَر مدة بعثته فيهم - بأنه حصل لهم الإيمان بما يكفي كما في صحيح البخاري وغيره من حديث أبي هريرة، وما في معناه من حديث ابن عباس رضي الله عنهم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (ما من الأنبياء من نبيٍّ إلا وقد أُعطي من الآيات ما مِثْلُه آمن عليه البشر؛ وإنما كان الذي أوتيته وحْياً أوحاه الله إليَّ؛ فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعاً يوم القيامة).
وحادي عشرها: فرح صاحب (محبة النبي - صلى الله عليه وسلم- وطاعته بين الإنسان والجماد) الأستاذ الدكتور خليل إبراهيم مُلا خاطر حفظه الله بكلمة عائشة رضي الله عنها؛ فعقد عنواناً مُوحشاً هو (مسارعة ربه عز وجل في هواه -صلى الله عليه وسلم-) (54)؛ فيا قوم هدانا الله هداية إيضاح لما اختُلف فيه من الحق، وهدانا هداية توفيق وإعانة على مراد الله منا: إن السياق عن حكم الله في نساء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعائشة رضي الله عنهن منهن وأحبهن إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: (ما أرى ربك إلا يُسارع في هواك)؛ لأنه سبحانه جعل حكمهن إليه -صلى الله عليه وسلم-.. وتفسير هواك برضاك تفسير باللازم، والمعنى المطابق (مرادك ومحبوبك)، فهي زوجته تحاوره على معتاد العشرة بين الرجل وزوجته؛ فيُفسَّرُ مرادها رضي الله عنها باللازم بأن الله نصرك علينا، وجعل حكمنا في يدك (وهو حكم عدل وإحسان)، وليس قولها رضي الله عنها في مناكفة عادية من أحوال البشر حكماً شرعياً، بل براهين الشرع جاءت في مواطن كثيرة على غير مراده بأبي هو وأمي؛ فكان مُناه إسلام عمه أبي طالب، فقال له ربه: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (56) سورة القصص؛ فالأمر لقضاء الله لا لما أحب عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم-، وكان مناه توبة المنافقين، وكان يزيد على سبعين مرة في الاستغفار لهم، فقال له ربه في سورة التوبة: إن الله لن يغفر لهم، ونهاه أن يقوم على قبر أحد منهم.. ومناه هداية الكفار من قومه؛ إذْ ذهبت نفسه الكريمة على الكفار حسرات؛ فسلاه الله بما في قضائه الكوني؛ فنهاه الله أن تذهب نفسه عليهم حسرات، وقال سبحانه:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (6) سورة الكهف؛ فيا إخواني أمتعونا بالجمع بين محبة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وتوقيره واتِّباع القطعي دلالة وثبوتاً من الشرع؛ لنقدِّم مراد الله على عواطفنا؛ فإن التديُّنَ لله بما يأباه الله وبالٌ، ولن تتسع هوَّة الخلاف بيننا حباً وبغضاً ونحن أهل قبلة واحدة، ولكن كل واحد منا مؤتمن على ضميره ونيته في المعادلة الصادقة بين قواطع الشرع وما يعارضه من شرع صحيح بتأويل جائر، أو شُبَه بلا محاكمة، أو أخبار غير مقاوِمة من حديث موضوع أو ضعيف في حكم الباطل أو حكايات أو منامات أو دعاوى أولياء بغير محاكمة المعادلة بميزان الاتباع؛ فمن تعبَّد لربِّه بما كاشف به إخوانه من براهين لا تُعارض براهين القطعي من الشرع فقد أنصف ونجا وإن كثر معارضوه، ومن عجز عن التخلُّص من البرهان وتمسَّك بما لا يُدْفعُ بمثله البرهان فيُخاف عليه هلكة اتباع الهوى.. أسأل الله جلَّت قدرته أن يُلجئنا إلى الهدى والحق إلجاء، وأن يجمع قلوبنا على ما يحب ربنا، وأن لا يَفْصم عرى المحبة بيننا، وأن يكون كل مخطئ منا مِمَّن يُؤتى أجراً ومعذرة.. وأما مبغضو الصحابة، ومُبدِّلوا الدين فنتقرَّب إلى الله ببغضهم والبراءة منهم، وندعو كل مسلم إلى مجاهدتهم دون أن يشق طاعة ولي أمر المسلمين فيما يُوَجِّه به من مقتضى المعادلة بين المصالح والمفاسد (المصالح المرسلة)، ولكنْ لتستقر أيها الأحباب قلوبنا على بغضهم، وتحرير الرد على كفرهم بالعدل الذي يحبه الله سواء أُتيح لنا نشره في حياتنا أو كان مما يُورث عنَّا.
وثاني عشرها: أكثر معاليكم حفظكم الله من ترديد (علِّموا أولادكم محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-)، وترداد الاشتغال بالسيرة العطرة، والاحتفاء بالأشعار في محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبعضها مدخول ببدعة أو شرك -، وأكد الأستاذ الخاطر أن محبته- صلى الله عليه وسلم- فرع الإيمان به(55) ، ولم ينتهِ إلى النتيجة الشرعية.
قال أبوعبدالرحمن: ما تعبَّدنا الله بتلاوة الأشعار (وإن كانت خالية من المأثم) في مدح المصطفى المختار عليه الصلاة و السلام، وما جعل متن سيرة المصطفى- صلى الله عليه وسلم- هو غاية الدين وقصده.. والعلم بأن محبة الرسول ? فرع الإيمان به تحصيل حاصل؛ وإنما الغاية العلم أن محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من محبة الله سبحانه؛ لأنها امتثال لأمره الشرعي، وأن محبته -صلى الله عليه وسلم- مشروطة بخلوص النية لله في أداء كُنْه المحبة المطلوبة منا، وهذا هو (تمييز المقصود بالعمل)، ولا يصح الخلوص الذي ذكرته إلا بأن يكون العمل مشروعاً، وهذا هو (تمييز العمل المقصود)؛ فَنُميِّز بصدقٍ بين العمل العادي والعبادي والشركي، وقد أسلفتُ كُنه المحبة وصفتها، وأنه لا طقوس لها، بل اتباع لا ابتداع.. والشعر أمر عادي في حياتنا إبداعاً وسماعاً ما بين مستحب وواجب ومباح، ومدح الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين الوجوب والاستحباب للقادر، وهو يذكِّرنا، ويحرِّك مشاعرنا إذا كان بريئاً من المحظور، ولكن ليس هو معظمَ تعبُّدنا، ولا هو غاية قصدنا.. وهكذا تلاوة السيرة العطرة منها ما يجب على العامي معرفته؛ ولهذا كان سلفنا في قرانا يعلِّمون العوام ثلاثة أشياء: من ربك، وما دينك، ومن نبيك ؟؟.. ثم على طالب العلم الاستزادة قراءةً و استنباطاً وتمحيصاً دلالة وثبوتاً، ولهذا حدٌّ حتى لا يبقى إلا التذكُّر والتعهد؛ ثم يكون حبُّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- خالصاً للمفسرين والمحدثين والفقهاء وعلماء الآداب الشرعية من العاملين العباد لله بما شرع؛ فهم يحرِّرون من الشرع دلالة وثبوتاً مراد النصوص خبراً وإنشاء، ولهم نصيبهم من النوافل والتهجد وإتقان الواجبات وكثرة الصلاة والسلام على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجَيَشانِ القلبِ حتى يسري الحبُّ إلى أوليائه من الصحابة رضوان الله عليهم وتابعيهم بإحسان؛ فهذا والله قسماً براً هو تحقيق مدلول قوله تعالى:(قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (31) سورة آل عمران؛ فاتِّباعه هو طاعته بما جاء في الوحيين: المتلو (القرآن)، وغير المتلو (السنة، والحكمة)، ومحبته مفصلة في الوحيين، ولا سبيل إلى معرفة كنهها إلا بتحرير الوحي دلالة وثبوتاً وَفْق دلالات لغة العرب التي ورد الشرع عليها، فنردُّ المتشابه إلى المحكم، والظني إلى القطعي، ونجمع بين النصوص بإسقاط ما لم تقم حجة ثبوته أو دلالته، ونعرف الخاص من العام، ونحمل كل نصٍّ على معناه إذا قام برهان الخصوص أو التقييد.. ولا نشغب على دين الله بالأباطيل والأكاذيب من الأحاديث الموضوعة، والأحاديث الضعيفة التي حكمها البطلان لمعارضتها القطعيات.. وهكذا المنامات، والحكايات، ودعاوَى الولاية بلا تمحيص، ونفرِّق بين اليقيني القطعي والرجحاني ثبوتاً أو نفياً والمحتمل، والله المستعان.
يتبع