تطرح الحياة المعاصرة بتحولاتها الكبرى حزما من الأسئلة العميقة التي يفضي تجاهلها أو عدم تأمين الإجابة الدقيقة عنها إلى ضرب من الواقع الدنيوي الذي يتخلق تطوره على نحو مجاف للقيم المعيارية. كلما اتسعت منظومات الواقع تضاعفت معالم تعقيداته ..
وبتنا بمسيس الحاجة إلى إحياء حركة الاجتهاد وتنمية حيويتها وذلك فى إطار الأصول والثوابت والقواعد الشرعية العامة لتتجسد من ثم الصيرورة إلى الوضعيات الموضوعية التي تتيح للإنسان المسلم جوا حياتيا متناغما مع مسلماته العظمى. الاجتهاد هو أحد تجليات مرونة التشريع الاسلامي وملاءمته لكل زمان ومكان وهو مؤشر بالغ العمق على رحابة هذا الدين وعلى قدرته الفائقة على التفاعل مع متباين التغيرات الحياتية وعلى احتواء مفردات الواقع ذات التلون الديمومي؛ بيد أن هذا الاجتهاد محكوم بمعادلات فقهية مقننة ومحددات معرفية صارمة لا يتأتى لحركة الاجتهاد استئناف مسيرتها من غيراستصحابها والانصياع لإملاءاتها الترشيدية. إن عملية الاجتهاد ليست عملية تبرير للواقع واستماتة لا متناهية لمجرد إضفاء لون من المشروعية على ملامحه بقدر ما هي قراءة شمولية عميقة له بغية معرفة حكم الشارع وآلية معالجته. الممارسة الاجتهادية البناءة هي التي تتحرك في سبل مستقلة لمواجهة الحالات الكلية والجزئية على أساس متين من القيم الشرعية بعيدا عن الإخلاد للتقليد الفكري الموروث الذي يستمد صوابيته لا من عمق موضوعيته بل جراء تقادمه وكثافة تداوله الاجتماعي, وبعيداً أيضا عن الذوبان الناشئ عن ضغوطات الواقع ثمة مسؤولية يبوء بحملها ذلك الفقيه الممارس للاجتهاد تتمثل في ضرورة تجرده من مؤثرات البيئة التي ينتمي إليها إذ إن من المعلوم أن كل شخصية لا بد أن تخضع بآلية شعورية أولا شعورية لجملة من المؤثرات التى تؤثر في صياغة عناصر كينونتها وبالتالي يمتد تأثيرها - بالنسبة للفقيه - ليطال العملية الاجتهادية ذاتها فقد يعيش المجتهد مثلا في مناخات بيئية محكومة بدرجة عالية من التشدد والخضوع لتقاليد ذات معالم حادة على نحو يحدو هذا المجتهد وبشكل لا شعوري إلى قراءة المعطيات المحيطة به من خلال ذهنية يجري تحركها عفويا على ضوء خلفيات بيئية تشكل عنصرا سيكولوجيا ضاغطا يمد تلك الذهنية بإيحاءات تؤثر بطريقة أو بأخرى على طبيعة استنباطها للحكم الشرعي والمجتهد إبان ذلك قد لا يعي أنه مشدود إلى أصول عرفية وجهت وبطريقة غير مباشرة اشتغاله الاجتهادي الذي يخال أنه متكئ على التجرد في أعلى مستوياته؛ وهنا تتجلى ضرورة تجاوز الانتماء إلى الخط المذهبي إلى الانفتاح القرائي على كافة القراءات المباينة بحسب ذلك هو السبيل الأسلم للإفلات من قبضة العناصر الذاتية والتحرر من وطأة الضغط اللا شعوري. تحرر الفقيه من قيود المحلية إلى رحابة الأممية يكشف له الكثيرمن الخصوصيات المحيطة بالفكرة ويمده بزخم من الايحاءات المنفتحة على آفاق المعنى ويعمق لديه الفاعلية الفقهية ويقيه متتاليات البرمجة الثقافية المرتكزة على معطيات محدودة الأمر الذي يرشحه لتجاوز الانحباس في الدائرة الفقهية الأضيق. الإفلات من قبضة البيئة والتحليق خارج فضاءاتها توسع رؤية الفقيه وتضاعف من قلقه المعرفي وتمكنه من المقارنة والموازنة وتؤهله لتلافي ما تولده الرتابة وتحاشي الوقوع تحت سطوة التقاليد وتكسبه روحاً زئبقية تمنحه القدرة المذهلة على التمنع على التشكيل النهائي. إن الانحباس في إطار العرف البيئي والتحرك بذهنيته أمر من شأنه تحجيم الأفق وتقليص مساحة التحرك وتحسيرتفاعل الملكة الفقهية على نحو لا يتماشى مع جوهر أدبيات الاجتهاد الشأن الذي يفضي إلى تسطيح التعاطي مع مستجدات العصر والمفردات المحددة لمسيرته. المجتهد المشدود بقوة إلى بيئته لا يتحلى بقدر واف من الحياد حتى وإن غلب على ظنه ذلك, إذ هو يمارس عملية تلوين للنص تبعا لقبلياته ومسبقاته وترسباته والمرتكزات اللا شعورية المتجذرة في الأنا التي يخضع لها على نحو تلقائي وتتحكم في آليته المعتمدة في وعي الموضوع أو النص, ولذا فيفترض بمن نذر ذاته للسير في خط الثقافة الفقهية وجند نفسه للمساهمة في عملية التطور الإنساني العام أن يتغلب - طبعا المسألة نسبية - على المؤثرات المتوارية في أغوار الذات.
إنه لا يسوغ التقليل من قيمة الفقه ومركزه القانوني في حياتنا كمسلمين لكن ايضا يفترض أن ندرك أن المعرفة الفقهية بحسبها جهد بشري هي نسبية وليست حقيقة مطلقة نفرض على الناس أن يختزنوا في ذواتهم أن ما نطق به الفقيه يمثل الحقيقة التي يعتبر عدم امتثالها نوعا من الخروج على الدين والتمرد على بديهياته, أو أنها وحي منزل من السماء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, نعم هي حقيقة ولكنها حقيقة من وجهة نظر القائل بها على نحو لا يسوغ أن يلزم بها سواه.
وختاما فإن هذه ليست دعوة للاجتهادات المزاجية الفوضوية المنفتحة على وضعيات مجافية لمرامي التشريع والمفتقرة للمرتكزات المنهجية اللازمة لبناء فقه الاجتهاد وإنما هي دعوة لإعادة الحيوية لمبلورات تعافي المشهد الاجتهادي وإعلاء مستوى ديناميكيته من خلال الضبط العلمي للمسار الفقهي ومن ثم تعميق التجربة الاجتهادية لتنأى عن السطحية, وتعميق الانطلاقات الفقهية لتمتد في الآفاق الفسيحة على ضوء ماينبغيات الحقائق القيمية القادرة على استيعاب المقتضيات الواقعية البالغة التنوع والتعقيد.
Abdalla_2015@hotmail.com