لا يكفي أن تُنفق الأموال الضخمة لخلق وسيلة إعلامية متخصصة لخدمة الأهداف السياسية، أو على الأقل لحماية المكتسبات الوطنية من التشويه؛ فصناعة الإعلام لم تعد كما كانت عليه في السبعينات الميلادية من القرن الماضي، بل أصبحت صناعة متخصصة قادرة على تشكيل الرأي العام وقيادته لخدمة الأهداف السياسة، الأمنية، والاقتصادية على حد سواء. الحرفية المهنية باتت مقدمة على حجم الإنفاق المالي، وإن كان يمثل العمود الفقري لوسائل الإعلام المختلفة، إلا أن الحرفية المهنية قادرة على استثمار الأموال البسيطة لتحقيق أهداف عظيمة قد لا تنجح الميزانيات الضخمة في تحقيقها. وأضرب مثالاً بمواقع الإنترنت الإخبارية، أو الحوارية، فهي مواقع متدنية التكلفة عظيمة التأثير في المتلقي، بل أصبحت قادرة على تشكيل الرأي العام الواسع في دقائق معدودات. بعض المحطات الفضائية تبث رسائلها الإعلامية من شقة بسيطة، ولا تتحمل من التكاليف إلا النذر اليسير، ومع ذلك يحظى القائمون عليها برعاية الزعماء، والوزراء ورجال المال والإعلام في العالم العربي. والسبب قوة تأثيرها على المتلقي من خلال رسائلها الإعلامية الموجهة التي يبحث عنها غالبية الشعب العربي. وبعض المحطات الفضائية لديها من الميزانيات ما يكفي لتمويل ميزانيات بعض الدول الأفريقية، وتمتلك المقرات الواسعة، والتقنية الحديثة، والقنوات المتعددة إلا أنها لا تمتلك التأثير حتى على مواطنيها، عوضاً عن المعارضين.
أستاذنا جاسر عبدالعزيز الجاسر، مدير التحرير، طرح (وجهة نظر إعلامية) تستحق الدراسة والتمحيص. الزميل الجاسر تحدث عن القنوات الفضائية التي تعمل لخدمة توجهات إعلامية وسياسة دول بعينها، مؤكداً أنه (ليس صعباً تحديد القنوات التي تخدم السياسة الإعلامية لإيران مثلاً، كما أن هناك محطات فضائية محسوبة على المملكة العربية السعودية). ويعود للتأكيد على وجود (فروق كبيرة في المهنية والاحترافية)، و(في إدارة وتوجيه تلك القنوات) لمصلحة القنوات الموجهة لخدمة السياسة الإعلامية لإيران)، ويعرج على قناة الجزيرة القطرية ويصفها ب(الرافعة الإعلامية للسياسة الخارجية لدولة قطر). وهنا نقطة الارتكاز، فأيهما يُشكل الآخر، الإعلام أم السياسة؟. والإجابة مختلفة باختلاف أهداف الوسيلة الإعلامية. فوسائل الإعلام المدعومة إنما وضعت لتحقيق أهداف الدول السياسية وليس العكس. لذا تعتمد الدول المتقدمة على وضع إستراتيجية سياسية ومن ثم وضع إستراتيجية إعلامية قادرة على تحقيق أهداف الإستراتيجية السياسية. كل ما حدث للعراق من غزو واحتلال أمريكي، وتحييد السنة، ومنعهم من دخول الانتخابات ترشحاً وتصويتاً في الانتخابات الأولى التي أفضت إلى وضع الدستور والمصادقة عليه كان ضمن إستراتيجية سياسية شاملة، وضعت لها إستراتيجية إعلامية استخباراتية متخصصة نفذت من خلال قنوات فضائية معروفة.
القنوات الإيرانية، وغيرها من القنوات الموجهة إنما خلقت لتحقيق الأهداف السياسية، ولتوجيه الرأي العام بما يخدم مصالح تلك الدول، والإضرار بمصالح الدول الأخرى، والشواهد كثيرة. أما المحطات المحسوبة على المملكة العربية السعودية فهي تفتقر للإستراتيجية والتوجيه، لذا تأتي مخرجاتها بما يضر بالمصالح السعودية في أحيان كثيرة. محسوبية بعض القنوات اللبنانية على السعودية أضرت بسمعتها السياسية، الاقتصادية، والدينية النقية، وساعدت في شحن القنوات المعارضة وتوفير الموضوعات الدسمة لها ما ساعدها على تشكيل رأي عام مضاد للسعودية يمكن توجيهه بسهولة لخدمة مصالح الدول الأخرى. القنوات التي استشهد بها الزميل الجاسر وضعت إستراتيجيتها وخططها عقول استخباراتية متخصصة، وأنفق عليها بسخاء، وجُند لها إعلاميون مرتزقة استطاعت العقول الاستخباراتية تطويعها وضمان استمرار ولائها من خلال وسائل خاصة لا يفقهها كثير من الإعلاميين المتخصصين.
لا أخفي سراً إذا ما قلت أن الإعلام الموجه هو من ساعد في دعم العمليات الإرهابية في السعودية وبنسبة لا تقل عن 50 في المائة. (زفات التفجير)، والتواصل المباشر مع الإرهابيين وإعطائهم المساحة الإعلامية الكافية لنشر أفكارهم، وإجرامهم الذي يَعده المنحرفون بطولة، والبرامج الحوارية التي تسوغ لهم قتل النفس وترويع الآمنين وتهديد أمن الوطن من الداخل، ساعدت في تبرير عملياتهم الإجرامية، وتشكيل رأي عام داعم لهم، بل وخلق ثقافة الإرهاب ودفع الشباب لها. الوسائل الإعلامية الموجهة كانت تعبث بالفضاء دون أن تجد من يقف أمامها من الإعلام المحسوب الذي لم ولن يصل إلى مستوى كفاءتها ما لم توضع له الإستراتيجية الإعلامية المنضبطة التي تحقق الأهداف السياسية. الإعلام القادر على خدمة الأهداف السياسية هو الإعلام الذي يجمع بين الحرفية الإعلامية، والحنكة السياسية، والسطوة الاستخباراتية، والحرية المنضبطة، النفوذ المالي، و(الالتزام السياسي والمهني إلى حد الإيمان المطلق والصادق للخط السياسي والإعلامي).
* * *
F.ALBUAINAIN@HOTMAIL.COM