لن آتي بجديد عندما أتحدث عن الأمير سلمان كمثقف؛ فهو واحد من العلامات البارزة و(التاريخية) بين أبناء الأسرة المالكة الكريمة، الذين يشار لهم بالبنان عندما يكون الحديث عن الثقافة والإعلام وعلاقتها بشؤون الحكم، إضافة إلى أنه صاحب تجربة طويلة في الحكم، أعطته قدرة (استثنائية) من خلال ممارسته عمله، إضافة إلى فكره الثاقب ومتابعته و(حيويته) الإعجازية، جعلته في المحصلة يمزج النظرية بالتطبيق، والمعرفة بالتجربة، كل ذلك أنتج لهذه البلاد هذا الإنسان المتميز. ولعل تواصل سموه المتكرر مع أصحاب الرأي في وسائل الإعلام المختلفة ظاهرة تحسب لسموه، وتشير إلى ذهنية متحضرة، ومتفتحة، تؤمن أن طرح القضايا على بساط البحث، وفي العلن، ونقاشها، هي أفضل الطرق للوصول إلى البت في قضايانا بما يكفل للحلول أن تكون الأقرب إلى الصواب؛ وفي الوقت ذاته تؤكد أن (الحوار) في مجتمعنا هو الأسلوب الأمثل الذي يتفق عليه الجميع.
سمو الأمير سلمان كتب محاوراً معالي الشيخ عبدالله بن منيع، والزميل الدكتور عبدالله الفوزان، وكذلك كاتب هذا الموضوع، حول قضية تعرضنا لها نحن الثلاثة، وما تزال رهن الحوار، وهي قضية (شراء الدماء) كما سماها معالي الشيخ المنيع في مقاله الأساس. وسوف أطرح في مقالي هذا تعليقا على هذه القضية، انطلاقا من رؤية سموه الكريم التي جاءت في رده المنشور يوم الثلاثاء الماضي في هذه الجريدة.
في البداية بودي أن أؤكد هنا أنني لا أختلف إطلاقاً مع سمو الأمير أن العفو، والتسامح، وترسيخ ثقافة (التكافل)، هي من أسس الشريعة، التي يجب أن نسعى إلى إشاعتها وتكريسها في مجتمعاتنا. كما أن العفو عند المقدرة من أعظم الأخلاق التي تنم عن نبل الإنسان ورقي قيمه، ولا أعتقد أن من المتحاورين من يختلف مع سمو الأمير في هذه المنطلقات، والآيات التي أصّل بها سمو الأمير مقاله في هذا الشأن كافية لتأكيد هذا الجانب إلى درجة القطع.
غير أن القضية التي تحدث عنها معالي الشيخ المنيع، وعلق عليها كاتب هذه السطور، تدور حول خطورة أن يتحول (العفو) المندوب شرعاً إلى (سلعة) ذات قيمة، تزود وتنقص كأي سلعة أخرى حسب العرض والطلب، وهذا في رأيي هو لب القضية التي نتحدث عنها، ولا سيما قد تحولت في الآونة الأخيرة إلى (ظاهرة) بالشكل الذي (قد) يكون له تبعات خطيرة على سلامة المجتمع، وأهمها على الإطلاق (الاستخفاف) بدم الإنسان. فالقاتل الذي يترتب عليه حكم القصاص في الشريعة هو في التعريف (مجرم)، وقاتل، توفرت فيه كل أركان الجريمة، يجب أن نتعامل معه على هذا الأساس، وهو في إجرامه هذا يترتب عليه حقان: الأول حق خاص لأولياء المقتول، لهم حق العفو عنه مثلما أن لهم حق الإصرار على القصاص منه. والحق الثاني الذي يعني المجتمع ككل، ولا يتوقف عند فئة دون أخرى، وهو بيت القصيد من هذه القضية، هو ما اصطلح على تسميته ب(الحق العام). هذا الحق على وجه التحديد هو الذي أطالب السلطات في المملكة بأن تسعى إلى تغليظه أكثر، ففي رأيي أن الحق العام في قضايا القتل العمد تحديداً، والمقدر حسب الإرادة الملكية بخمس سنوات، كما أشار سموه في مداخلته، (غير كاف)، خاصة في حالات (العفو) عن القصاص، والقبول بالدية، ففي رأيي يجب أن يكون السجن مدة أطول مما نصت عيها الإرادة الملكية، زجراً للقاتل، وردعاً لمن تسول له نفسه إزهاق الأرواح وإراقة الدماء. وغني عن القول إن الشريعة الغراء في أحكامها تنطلق من حماية (الضرورات الخمس) وأهمها النفس والمال والعرض، ومثل هذا التغليظ في الحق العام سيجعل الجاني، وليس الآخرين، يتحمل (منفرداً) جريرة جريمته بما يسهم في (حفظ النفوس)، بدلاً من أن (يشارك) الجاني في تحمل المسؤولية عصبته، ومن (فزع) له من أهل الخير، ليفلت من العقاب الأشد والذي هو بلغة أدق (الإعدام)، سيما وأن العفو -كما سبق وذكرت - أصبح (سلعة) تباع وتشترى، وليس مبعثه قيم التسامح وتلمس الأجر والثواب من رب العباد، كما تنص كل الآيات والأحاديث التي تحث عليه.
كل ما أريد أن أقوله هنا أن القصاص -أولاً وليس ثانياً- هو عقاب (رادع) لحفظ الأنفس، وترسيخ التعايش الآمن بين الناس، وهو مدلول قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ}. ولتفعيل مدلول هذ الآية (عملياً) لا بد من تغليظ الحق العام بسجن المجرم مدة أطول إذا ما تم إسقاط حكم القصاص بقبول الدية.إلى اللقاء.