اقتصرت مصادر سيبويه في كتابه على البصريين وحدهم، ولم يأخذ إلا عن الرؤاسي من الكوفيين ناقلاً عن كتابه (الفيصل)، واعتمد في شواهد الكتاب على القرآن الكريم وكلام العرب وأشعارهم وأرجازهم وحِكَمهم وأمثالهم، فأخذ عن الشعراء الجاهليين كزهير والنابغة والمخضرمين كحسان والحطيئة، والأمويين كجرير والفرزدق وكميت وعمر بن إبي ربيعة وابن قيس الرقيّات وجميل بثينة والأخطل ومخضرمي الدولتين الأموية والعباسية كرؤبة المتوفى سنة 145هـ وابن ميّادة المتوفى 149هـ، وابن هرمة المتوفى 176هـ، ولم يتعدّ هؤلاء إلى من بعدهم من الشعراء المحدثين، كذلك احتجّ في الكتاب بالشعراء المجهولين بناء على أنّ الشاهد المجهول القائل يُحتجّ به مخافة أن يكون في واقع الأمر لشاعر من أهل الاحتجاج، لكن شريطة أن يثبت قطعاً أنه ليس لشاعر محدث لا يُحتجّ بشعره، وقد مشى جمهور النحويين بعده على هذا الرأي.
|
أمَّا الحديث النبوي فلم يستدل سيبويه به إلا نادراً، وذلك لانعدام ثقته في نقله بلفظه الوارد عن الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب تصريح العلماء بجواز الرواية بالمعنى، لهذا لم تتجاوز شواهد الحديث في كتاب سيبويه الخمسة، وبلغ ما ذكره سيبويه في الكتاب من آي القرآن من أكثر من ثلاثمائة آية، وكان يدعم أحياناً هذه الآيات لبعض الأبيات للاستئناس.
|
أمَّا الشواهد النثرية في الكتاب فقد كانت المعين الذي لا ينضب لكثرتها، ومنها الأمثال السائرة التي سمعها من العلماء الذين تلقَّى عنهم أو أخذها مشافهة من العرب.
|
وأمَّا شواهد الكتاب الشعرية فقد بلغت ألفاً وخمسين بيتاً ولم يكن سيبويه يُعْنَى كثيراً بنسبة الشعر إلى قائليه، قال الجرمي (نظرت في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتاً، فأمّا الألف فقد عرفت أسماء قائليها وأمّا الخمسون فلم أعرف أسماء قائليها).
|
ومن الأبيات التي لم ينسبها سيبويه في كتابه:
|
استغفر الله ذنباً لست مُحْصِيَه |
ربَّ العباد إليه الوجه والعمل |
إنَّ عليَّ اللهَ أن تبايعا |
تُؤْخَذَ كرهاً أو تجيء طائعا |
لا أبَ وابناً مثل مروان وابنه |
إذا هو بالمجد ارتَدَى وتَأزَّرا |
ومن أبيات الكتاب التي قيل إنها مصنوعة:
|
حِذرٌ أموراً لا تضير وآمِنٌ |
ما ليس مُنْجِيَهُ من الأقدار |
وكان من المفروض أن يحتجَّ سيبويه في كتابه بشعر بشار بن برد المتوفى 167هـ لأنه من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، ولكنه لم يفعل، بل عاب على بشار أكثر من مرّة كلمات له في أبيات متعددة، مثل قول بشار في وصف سفينه:
|
تُلاعِبُ نِينَانَ البحور وربّما |
دَأَبَتْ نفوسُ القوم من جَرْيها تجري |
|
قال سيبويه (لم أسمع بالمفرد نون ولا بالجمع نِينان)، وحين بلغ عيبُه هذا بشاراً قال يهجوه:
|
أَسِبْويْهِ يا ابن الفارسية ما الذي |
تَحدّثْتَ عن شَتْمي وما كنتَ تَنْبِذ |
أَظَلْتَ تُغَنّي سادراً في مساءتي |
وأُمُّك بالمصْرَين تُعطِي وتَأخُذ؟! |
فتوقَّى سيبويه شرَّه بعدئذ واستشهد بشعره في أثناء الدرس فقط. وقد جاوز سيبويه في عناوين أبوابه الحدّ، فقد بلغت عشرين وثمانمائة عنواناً مع الغموض الذي لا يفصح عن المقصود لأوّل وهلة، ويقع الكتاب في جزأين، ولم يتضمن في أكثر الأحوال المصطلحات النحوية أو العبارات الاصطلاحية التي نعرفها الآن، فهو مثلاً لم يُسم أسماء الإشارة بهذا الاسم الذي نعرفه في زماننا، بل دعاها (الأسماء المبهمة)، كما كان يسمي البناء على السكون (جزماً)، ويسمي المقصور (مفتوحاً) وغير ذلك كثير، وكانت عناوين الأبواب طويلة وهي ليست مفهومة عندنا على الغالب، ولابد لكي نفهمها تماماً من العودة إلى صلب الموضوع في الكتاب، ومن هذه العناوين على سبيل المثال:
|
- (باب الفاعل الذي لم يتعدّه فعله إلى مفعول) أي الفعل اللازم.
|
- (باب من الفعل سُمِّيَ الفعل فيه بأسماء لم تؤخذ من أمثلة الفعل الحادث)، يقصد اسم فعل لأمر نحو (رويدَ زيداً) أي أمْهِلْه، و(حَيَّهَل الثريدَ) أي أقْبِلْ بالثريد وهَاتِه.
|
- (باب ما ينتصب من المصادر لأنه عذر لوقوع الأمر) يقصد المفعول له أي المفعول لأجله مثل (فَعَلْتُ ذاك حذارَ الشّر).
|
ويخالف ترتيب أبواب الكتاب وفصوله المنهج الذي اتبعه المؤلفون المتآخرون، فلم يرتبها سيبويه على النحو الذي رتبها في ألفيته ابنُ مالك ومن اقتدى به، وهو لم يأت بالمرفوعات كلها على حِدة ثم بالمنصوبات ثم بالمجرورات فالمجزومات كما فعل ابن هشام الأنصاري في كتابه (شذور الذهب)، بل نجدها وقد اختلط بعضها ببعض اختلاطاً شديداً، فهو يورد مثلاً تحت (باب الفاعل) فصلاً مستقلاً للفاعل الذي لم يتعدّه فعله إلى مفعول، وفصلاً ثانياً مستقبلاً للفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعول، وفصلاً آخر منفصلاً للفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين، بينما نحن الآن نضع ذلك كله في (باب واحد) تحت عنوان (باب الفعل اللازم والفعل المتعدّي).
|
وكان سيبويه يذكر في (كتابه) القاعدة وأمثلتها ويخرج ذلك بالتعليلات المنطقية ويعرض أيضاً الآراء المختلفة في الموضوع الواحد، كما كان يفرض فروضاً ويضع لها الأحكام. وليس ينقص من منزلة (الكتاب) العليا ولا يغض من شأن صاحبه مآخذ بعض العلماء أو انتقادهم أو تغليطهم لبعض مسائل سيبويه أو أساليبه فيه، ومن ذلك أن الفرّاء (الكوفي) قال (إن سيبويه لا يدري حد التعجب)، ورُوي أيضاً أبابكر الزُّبيدي ألف كتاباً سماه (كتاب الاستدراك على كتاب سيبويه) انتقد فيه مسائل مهمة من الكتاب، كذلك أفرد أبو العباس المبّرد (البصري) كتاباً في القدح في كتاب سيبويه (البصري مثله) وفي الغض منه سمّاه (مسائل الغلط)، ولكن النحوي (البغدادي) عبيد الله بن أبي بُردة صنف كتاباً سماه (الانتصار لسيبويه على أبي العباس في كتاب الغلط). وفي عبارات الكتاب قدر كبير من الغموض والإبهام الذي يحتاج معهما القارئ إلى إعمال الرّويّة والتأني لفهم غرض المؤلف، وقد أظهر هذا شخصية سيبويه العلمية المستقلة واضحة قوية، فالمعلومات خارجة عن الرّجل، أما الأسلوب فهو الرجل نفسه.
|
لقد بلغ الأمر (بالبعض) وحَمَلَه على المبالغة بتسمية كتاب سيبويه (قرآن النحو) إكباراً له، ويصعب أن نجد في هذا العصر مشتغلاً بالنحو دراسة وتدريساً من عرب هذا الزمان يستطيع أن يستوعب جميع كلام سيبويه في (كتابه)، وأن يدرك كُنهه، وأن يحيط بمضمونه، وأن يتصوّر مراميه وأبعاده، ذلك أمر عسير، وإن وُجد فإنه لا يعدو أن يكون عدداً محدوداً جداً لديه مثل هذه القدرة.
|
أ.د. عبدالكريم محمد الأسعد |
أستاذ سابق في الجامعة |
|