الإخوة في المغرب الشقيق مولعون بزيارة المدينة المنورة، ولا يهنأ أحدهم عند قدومه للعمرة إلا بعد أن تطأ قدمه مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم. وهذا الشوق للبقاع المقدسة جبلّة جبلوا عليها، وارتباط روحي عاطفي مع شدة وجد لا يضاهيه وجد سواه، وبعضهم يلمس سبلا مختلفة وطرائق متباينة لتوفير ما يغطي عمرته وزيارته للمدينة المنورة، وغالباً ما تذهب العائلة حتى وإن كان برفقتهم من هو دون سن الرشد. والحب المرتبط بالدين هو أعذب الحب وأخلصه، وأتقاه وأطهره، وأحسنه عاقبة.
وكان الإخوة في المغرب الشقيق شأنهم شأن الآخرين من المسلمين يقطعون الفيافي والبحار قادمين إلى الأماكن المقدسة، ليس لأغلبهم غاية إلا طلب الرضا من الباري عز وجل، وقضاء أحد أركان الإسلام المفروضة وكما نعلم جميعا وسائل النقل البسيطة المتاحة آنذاك، وكذا غياب الأمن في بعض محطات الرحلة المنشودة، لكنهم مع هذا يذهبون راضين محتسبين عند الله الأجر والثواب.
وفي زمننا هذا تغيرت الأحوال، وتيسرت السبل، وقصرت المسافات، بفضل الله ثم الآلات، واكتست مكة المكرمة والمدينة المنورة بالأمن والراحة والطمأنينة، فأصبح الحج وزيارة المسجد النبوي الشريف أقل مشقة وعناء، وأكثر يسراً ورخاء، فحمدا لله على ما أسدى، والدعاء مرفوع لمن سعى وأعطى، راجين الله أن يحفظ لنا ما وهب، وأن يجعلنا ممن أحب.
تذكرت ذلك بعد أن اتصل بي قريب، ذاكراً أنه قد عاد من المدينة المنورة لتوه، حيث زارها لأول مرة في حياته وهو الآن تجاوز الثامنة والعشرين من العمر، وهو الذي اعتاد على الذهاب إلى مكة المكرمة للعمرة بمعدل مرتين في العام، كما أنه قضى حجه قبل خمس سنوات.
وكان يتحدث عن شعوره عند دخوله الحرم المدني وما تغشاه من هدوء وسكينة وخشوع ومذلة لله جلّ جلاله، وهو ما يشعر به في مكة المكرمة.
وانتقل إلى الحديث عما حظي به الحرم الشريف من رعاية، وما يحيط بالحرم من منشآت وما يناله الزائر من خدمات، فكان مبهوراً بما رأى، سعيداً بما نال، مسروراً بتلك الزيارة الفريدة والرحلة المجيدة، واعدا نفسه بالإياب مرات عديدة.
بعد حديثه بساعة وبمحض الصدفة إذا بي أجد بين يدي كلمة لصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز عند افتتاح معرض الحرمين الشريفين في الدار البيضاء في 22-10-1409هـ الموافق 27-5-1989م، وعلى القارئ الكريم حساب السنين.
كلمة الأمير سلمان ألقيت بحضور المغفور لهما بإذن الله خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز، وجلالة الملك الحسن الثاني تضمنت نبذة تاريخية رائعة، تجدر الإشارة إليها، فهي دلالة الروابط التاريخية وعنوان التمازج الديني والعرقي والحضاري بين المملكتين الشقيقتين، فأشار سموه إلى انطلاقة موسى بن نصير وطارق بن زياد وعبور المضيق، في أجرأ عبور في التاريخ لنشر الإسلام في جزء هام من أوروبا، وليؤثر تأثيرا قويا ومباشرا في نهضة أوروبا الثقافية والصناعية والاقتصادية حيث قامت الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس وانتشرت فيها الجامعات ووفد إليها الأوروبيون ليتعلموا منها العلوم المختلفة، وليظل تأثيرها قويا في نهضة أوروبا والعالم أجمع.
وتصفح سموه التاريخ فذكر انطلاقة بواسل المغرب بقيادة يوسف بن تاشفين زعيم المرابطين، وهو من قبيلة لمتونة الصنهاجية البربرية، وذلك بعد اندثار الحكم الأموي وزوال حكم الحاجب بن أبي عامر وظهور حكام الطوائف، وضعف شوكتهم واستعانتهم بأعدائهم، كما أشار سموه إلى الانطلاقة الثانية بقيادة عبدالمؤمن بن علي زعيم الموحدين وهو من قبيلة زناتة البربرية، بل نقول القبيلتين العربيتين الحميريتين، كما هو أصلهم فيما يذكر بعض علماء التاريخ حيث هاجروا برا فأطلق عليهم لقب بربرا.
لقد ذكر سموه لتلك الدولتين دورهما في إعادة وحدة الأندلس العربية المسلمة ليبقى الإسلام مرفوع الرأس هناك عدة قرون وأشار سموه إلى دور المغرب العربي في استقبال المهاجرين من الأندلس الذين فروا بدينهم في آخر القرن العاشر الهجري بعد سقوط الأندلس.
وأشار سموه إلى السلطان سليمان بن محمد بن عبدالله بن إسماعيل الذي حمل ابنه إبراهيم أثناء قيامه بالحج رسالة إلى الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد آل سعود الملقب بسعود الكبير، وقد عاد الأمير إبراهيم بنظرة إيجابية وصحيحة عن الدعوة التي قامت عليها الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة.
وأشار سموه إلى ما حظي به المسجد الحرام، والمسجد النبوي من توسعات حيث كانت مساحة الحرم المكي 28.000 متر مربع بعد التوسعات وعدد المصلين سبعة وأربعون ألفا، والمسجد النبوي الشريف لم يكن يتسع سوى لسبعة عشر ألف زائر فقط.
إن التاريخ ولغة الأرقام هي أبلغ اللغات، فعلى كل ذي لب يبحث عن الإنصاف أن يحكم بما يرى في وقتنا الحاضر ليرى البون الشاسع والعمل الرائع.
ولا تفوتني الإشارة إلى أن جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله قد قلّد صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز وسام الكفاءة الفكرية الخاصة بالعلماء والمفكرين تقديراً لسموه.