معنى تثبيت وضع أو إشكالية داخل قوالب متحجرة، والاكتفاء برتوش خارجية، هو بالتأكيد حكم عليها بالتورم والنزف والمزيد من الاختلاطات المستقبلية في حال لم يفتح الجرح ويطهر ويعالج بصورة جذرية، فبعد اجتماع لجنة مكونة من 14 جهة، وهي اللجنة المكلفة بدراسة مشاريع نظام الحد من الإيذاء، رفضت عدد من الجهات، منها وزارة الداخلية والعدل والشؤون الإسلامية والعمل والشؤون الاجتماعية وغيرها... إنشاء هيئة مستقلة خاصة للحماية الاجتماعية، بحجة أن الإيذاء والحماية شأن اجتماعي، وأن توسيع دائرة الهياكل التنظيمية للدولة يتبعه زيادة في التكاليف، وإن إنشاء هيئة مستقلة يعطي انطباعاً سلبياً بأن قضايا الإيذاء منتشرة وتشكل ظاهرة في المملكة.
وأعتقد هنا أن هذه الحجج بحد ذاتها بحاجة إلى هيئة بل فريق خبراء يتأمل الطريقة التي تعالج بها الأمور محلياً، وخاصة عبر اللجان؛ فالحجج تقوم للمحافظة بل المنافحة عن الأنظمة واللوائح القائمة وتكريسها ضد الإنسان؛ فيصبح الإنسان أسيراً للأنظمة غير قادر على تجييرها لمصلحة البشر، هي النظرة البيروقراطية العتيدة التي تعودنا عليها والمكبلة بمنهاجها الذكوري، والتي ترى أن المرأة والطفل مخلوقات قاصرة غير كاملة الأهلية يعيشون على هوامش المشهد العام، وبالإمكان التراخي والتسويف فيما يتعلق بحقوقهم، وأن عملية التعذيب والقتل وقصور شروط الوصاية (التي أصبح الإعلام قادراً على فضحها وتسليط الضوء عليها) شأن عائلي خاص يجب أن نغطيه بغطاء الستر والخصوصية العائلية حتى لا نعطي انطباعاً سلبياً للعالم المتحضر.
وأعتقد أن الإشكالية الفادحة هنا تتجاوز إقامة هيئة مستقلة لمتابعة قضايا العنف بل تتجاوزها إلى نقطتين هامتين: الأولى هي غياب تشريع قانوني للأحوال الشخصية، هذا القانون يحتوي في حيثياته وبنوده الغطاء القانوني للجهات الأمنية للتدخل السريع في حالة العنف والانتهاكات الجسدية وقصور الوصاية بمصاحبة مندوب من وزارة الشؤون الاجتماعية، وهذا بالتأكيد يتطلب بصورة ملحة إعادة فتح قضية تقنين الشريعة، والتي منها سينبثق قانون للأحوال الشخصية تستطيع الجهات الأمنية أن تتحرك من خلاله تبعاً لبنود واضحة وصريحة تمنع العنف بجميع أشكاله ضد النساء والقصر.
النقطة الثانية الجهات التي ترفض تكوين هيئة مستقلة عاجزة عن تكوين نظرة شمولية قادرة على استقصاء مظاهر العنف في جميع جوانب حياتنا ابتداءً من المناهج الملغمة بالأطروحات الأيديولوجية الرافضة للآخر مروراً بقانون العمل والعمال ونظام الكفيل انتهاءً بالطريقة التي يقود بها المجتمع السيارات في الشوارع ورفض الاستجابة للقوانين المرورية أو قوانين التحضر واللياقة في أبسط أشكالها وهي احترام الأماكن العامة والوقوف في صفوف منتظمة.
إذاً نصل في النهاية إلى أن الأمر لا يتوقف على رفض جهات معينة على تكوين هيئة مستقلة تتعامل مع قضايا العنف بصورة مستقلة وبأقل قدر من التعقيدات البيروقراطية، أعتقد أن القضية تغور عميقاً إلى طبيعة الثقافة والحمولة الثقيلة من الأعراف الاجتماعية التي يعالج بها هذا الموضوع، والتي هي بحد ذاتها تحمل نوعاً من العنف المستتر.
لكن في النهاية أرجو أن لا يحبط أو يقهقر هذا الموقف القائمين على برنامج الأمان الأسري؛ فالمسيرة ما زالت طويلة ومليئة بالصعاب والتحديات.