أول إحساس بالأسوار كان عند قدومي إلى العاصمة للدراسة كنت خجولاً وكثير التوجس. أميل للعزلة واختيار من أجالس بعناية فائقة. دخلت بالواسطة إلى المعهد الصحي، رغم أنني أحمل شهادة الثانية ثانوي، أرعبني في المعهد ما يتعلق بالصحة والتحاليل وإسالة الدم. رؤية الدم ترعبني، مع أنني أعرف أنني مصاب بفقر الدم وبالضغط المنخفض، بعد ذلك قر قراري المكين على توديع قاعات الدرس في هذا المعهد. لكن الخروج من معهد داخلي دونه خرط القتاد، ليس هناك من حل سوى تسلق الأسوار. في الخلف خلاء، أرض فارغة، المنازل قليلة ومتباعدة، لكن السور كان عالياً، والعيون مثل الرصاص أو هكذا قر في داخلي المتوجس من العيون والأصوات التي لم أعرفها أو آلفها لكنني في النهاية وجدت الوسيلة فهربت مودعاً الأسوار وفوق ذلك كله ودعت الدم والأمراض!
أما المواجهة الثانية مع الأسوار، فقد كانت عندما شرعت في بناء منزلي الشخصي، كنا في عام اثنين وأربعمائة وألف للهجرة. المكان فضاء، أمامي عن قرب أسوار الاتصالات طويلة تتخللها فتحات من الحديد والأسمنت، الأسوار عموماً واطئة، يقابلها عدد محدود من الفلل. كل واحدة بسور مصمت، عال أو منخفض، لكنه لا يشف عما خلفه، كم طول السور؟ متران، ثلاثة، حظك نصيبك!
هكذا قال لي واقف فضولي في مكان البناء، رفعت سوري بين هذا وذاك، لم ارتح للسور كله، كان بودي أن يكون مثل سور الاتصالات أو مثل أسوار المنازل المسورة التي تواجه كورنيش جدة والقاهرة، لكن هذا محال، هذا ما بلغني فغمني وجعلني في قلق مقيم. حال الانتهاء بزغت المنازل مثل الأشجار.. بعضها مترامية وبعضها ضيقة، بعضها فاتح لونها وبعضها كاتم وبعضها مثل ملابس الأفارقة ألوان فاقعة ومتضاربة، وبلكونات في مدينة صحراوية وليست من مدن السواحل حيث يتخلل هواء البحر الغرف والمنازل والأجساد!
رضيت بسوري لكن أصحاب المنازل الأخرى، لم يعجبهم الوضع، فشرع جار بوضع سور على سور، حتى تحول منزله إلى ما يشبه سجن، يخشى سجانه من هروب المساجين، لكن الجار فعل ذلك من عيون الفضوليين، كان متحفظاً بعض الشيء ولا يريد أن يرى ما حوله، ما بجانبه، ما بغرفه التي تطل على حمامات السباحة، كان سوره الاضافي أنيقاً وينم عن ذوق رفيع، لكنه سور اضافي على أي حال أما الجار الآخر الذي يبعد عني قليلاً فقد مد حول سوره وسور مجاوريه، سوراً من الحديد الألمونيوم أو الشينكو، ولم يكن هدفه شخصياً كما صرح، لكنه للحفاظ على خصوصية الجيران، وخصوصيته تبعاً لذلك، هذه الأسوار منعت عني الهواء، والإحساس بمساحة وبراحة الصحراء التي أفضلها على المدن المحوطة بالجبال، فالصحراء بالنسبة لي تعني حرية الحركة وتخلل الريح وامتداد الزرع، وتمازج الناس وقربهم من بعضهم البعض، الأسوار استثناء من كل ذلك!
أما العلم الثالث بالأسوار، فقد شهدته عندما بدأت المولات التجارية والمطاعم ذات الماركات العالمية في الانتشار. بدا حينذاك حفاظاً على الخصوصية التي نحفل بها كثيراً في وضع السواتر المانعة من اختلاط النساء بالرجال أو اختلاط العائلات بالعائلات، هذه الخصوصية جعلتني أفضل أكل بيتي وجلسة بيتي، فهناك أنا الذي وضعت سوري، صحيح انه وفقاً للوائح، لكنني على الأقل في بيتي.. إنها الخصوصية التي كلما خرجت عن الحظر وجدت من يعيدها إليه، حتى وان كان الأمر كرهاً!
والحديث عن الأسوار يطول لو أردنا بسطه وتحليله ومعرفة مراميه مثل الخصوصية التي نكثر الحديث عنها بإسهاب نحسد عليه!.
فاكس: 012054137