هل تتذكرون ما قاله أحد الحكماء عن جلسائه: (هم جلساء ما نملّ حديثهم أمينون مأمونون غيبا ومشهدا إذا ما خلونا كان خير حديثهم معينا على نفي الهموم مؤيدا يفيدوننا من علمهم علم ما مضى وعقلا وتأديبا ورأيا وسؤددا فلا ريبة تخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لسانا ولا يدا فإن قلت:
أموات فلست بكاذب وإن قلت أحياء فلست مفنّداً) أتعرفون من هم الجلساء يا إخوان، إنهم الكتب، حيث يقال: (خير جليس في الزمان كتاب).
كما تذكرت أنني قرأت يوما من أن الرشيد وابنه المأمون جلبا الكتب من جميع البلاد بطرق كثيرة من أنقرة وعمورية وقبرص والقسطنطينية وبذلا العطاء بسخاء للمترجمين، فقد روي أن المأمون كان يعطي حنين بن اسحاق من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى اللغة العربية مثلا بمثل.
كما أن بيت الحكمة كان أول مكتبة عامة ذات شأن في العالم الإسلامي، وأول جامعة إسلامية اجتمع فيها العلماء والباحثون والطلاب. وبيت الحكمة وغيرها من المكتبات التي كانت تنتشر في بغداد هي التي جعلت أبا العلاء المعري يحب بغداد لما شغفته من خزائن الكتب فيها فضلا عن نشاط مجالسها العلمية، حيث يتاح له حضور متألق جذاب في مجتمع علماء ذلك الزمان، حيث إن المكتبة هي المصنع الذي تصنع فيه العقول، وتصاغ فيه الأذواق.
واليوم نجد أن البروفسور روبرت دارنتون المسؤول عن مكتبة جامعة هارفارد قدم رؤيته عن إشكالية المعلومات في عصر الانترنت، وأظهر رفضه للوصف الشائع للأزمنة المعاصرة باعتبارها عصراً للمعلومات، وأن الوسيط الإلكتروني يمثّل التغيير الرابع في علاقة الإنسان مع وسائط نشر المعرفة، بعد اللفائف والمخطوطات والكتب.
خاصة ان الإنسانية استغرقت 4300 سنة لتنتقل من الأبجدية إلى كتابة اللفائف، وبعدها احتاجت 1150 سنة لتصل إلى الطباعة المتحركة، ثم انتقل عصر الانترنت خلال 524 سنة. وأن الانترنت انتقلت من أداة للاتصال ونقل الملفات إلى فضاء للكتابات الرقمية، ما استلزم صنع محركات البحث عن النصوص في 19 عاماً. وأخيراً ظهور مكتبة (غوغل) للكتب يؤشر إلى مرحلة تبلور طموح الإنترنت لأداء دور المكتبة العالمية.
وبالنسبة لي فأعظم شيء رأيته في أمريكا عندما كنت أحضر للدكتوراه في الستينيات الميلادية لم يكن إحدى ناطحات السحاب أو إحد ىالجامعات، أو سفن الفضاء أو غير ذلك، بل كان المكان الوحيد في العالم الذي يجمع كل أنواع المعرفة العلمية والأدبية والفنية، وذلك كان مكتبة الكونجرس التي في الأول من نوفمبر عام 1897م افتتحت أمام الجمهور لتصبح أول مكتبة عامة لكل الشعب الأمريكي. وأول مكتبة بهذا الحجم مفتوحة أمام عامة الشعب.
تلك المكتبة تطورت وكبرت بحيث إنها اليوم تعتبر أكبر مكتبة في العالم والمرجع الأول في العالم للكثير من المراجع، تضم أكثر من مائة وثلاثين مليون مادة من كتب ووثائق وما شابه، منها 29 مليون كتاب على شكل كاتالوج ومواد مطبوعة بأربعمائة وستين لغة، وفي المكتبة أكثر من 58 مليون وثيقة، وتعتبر أكبر مرجع للمواد الحقوقية والخرائط والأفلام والمعزوفات الموسيقية.
وقد حلمت وتمنيت في ذلك الوقت أن ينشأ في بلادنا شيء مثيل لها، وما أجمل من أن يقال: إن عاصمة المملكة العربية السعودية، الرياض، هي عاصمة العلم في الشرق الأوسط.
وبدأت أفكر في الموضوع، وقلت هل يمكن أن تكون مكتبة الملك فهد الوطنية مثيلا لما يحلم به شعب هذا الوطن الغالي حيث بلغ مجموع ما تقتنيه مكتبة الملك فهد 367000 من أوعية المعلومات المطبوعة، والمواد السمعية والبصرية، مثل الأقراص البصرية والمصغرات، والوثائق المحلية، والمصكوكات، والكتب النادرة، والمخطوطات، كما حصلت المكتبة أخيراً على الدفعة الأولى من المخطوطات العربية النفيسة من جامعة برنستون الأمريكية، وهي عبارة عن 5000 ملفوفة مصورة من مجموع المخطوطات والكتب النادرة وغير ذلك. كما تحصلت المكتبة على مجموعات نادرة وقيمة من المكتبات الخاصة الأدبية المهداة لها، مثل: مكتبة الأديب محمد حسن زيدان، ومكتبة الشيخ عبدالله بن خميس، ومكتبة الشيخ عبدالله الجنيدل، ومكتبة الأديب محمد منصور الشقحاء إلى جانب الكثير من الاهداءات القيمة من الأدباء والمفكرين. ولا ننسى أهدافها في مجالات التوثيق وحفظ الإنتاج الفكري السعودي، وتقديم الخدمات المعلوماتية بما يتلاءم مع التنمية الشاملة التي تشهدها المملكة العربية السعودية. لكني أتساءل كم نسبة المواد العلمية البحتة والتطبيقية إذا ما قورنت بمكتبة مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية.
كما توجد مكتبة الملك عبدالعزيز العامة التي توجهت لتصبح مكتبة إلكترونية عصرية، ولا ننسى مكتبة مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بإمكاناتها الفنية والتقنية وبما يتوفر لديها من قواعد معلومات ضخمة.
كما توجد لدينا مكتبات متناثرة هنا وهناك غير متكاملة في الجامعات السعودية، وكل مكتبة لا يجد البحاث كل ما يحتاجونه، وصدقوني في البلاد المتقدمة الجامعات فيها لا ترضى بمثل تلك المكتبات القليلة الإمكانات الموجودة لدينا، وهذه هي الحقيقة لأننا لا يمكن أن نبني في كل جامعة مكتبة علمية متكاملة لأنها مكلفة وخاصة ان بلادنا بها تنمية في جميع المجالات، وهناك أولويات.
لذلك تمنيت أنا وكل محب لهذه البلاد أن تنشأ مكتبة عصرية علمية عالمية في بلادنا، بها كل كتاب ومجلة علمية، المطبوع منها أو الموجود على أقراص، أو ما يمكن أن تجده على الانترنت أي كل ما كتب إلكترونيا (تسمى المكتبة الإلكترونية، والكتاب الإلكتروني)، حيث إنه في المكتبة الإلكترونية تتوفر أوعية ومصادر المعلومات على وسائط رقمية مخزنة في قواعد معلومات مرتبطة بشبكة الانترنت بحيث يمكن الاطلاع والحصول على هذه الأوعية من خلال نهايات طرفية مرتبطة بقواعد المعلومات الخاصة بالمكتبة.
هذه المكتبة العصرية سوف تخدم العلماء والأبحاث العلمية في جميع مجالات العلم مثل العلوم الطبية والهندسية والزراعية والعلوم البحتة والتطبيقية مثل الفيزياء والفيزياء النووية والكيمياء والبترول والغاز والمياه وعلوم الأرض وغير ذلك من علوم المعرفة العلمية، بحيث يجد فيها الباحث السعودي كل ما يحتاجه من مراجع علمية.
نحتاج مكتبة تغذي عقول أبناء هذا البلد الحبيب على قلوبنا، مكتبة تجعلنا نفكر بعقولنا، مكتبة ينهل منها شباب هذا البلد وعلماؤه حاضرا ومستقبلا، مكتبة نفتخر بوجودها بين الأمم. ولذلك إنشاء مكتبة علمية عالمية هي مطلب لكل باحث حاضرا ومستقبلا، مكتبة تبدأ في عصر خادم الحرمين الملك عبدالله وتستمر لآلاف السنين، لتتذكر الأجيال القادمة عصره الذهبي، وبعد نظره بإنشاء تلك المكتبة خدمة للأجيال القادمة.
والتساؤل كف يمكن لنا من البدء في إنشائها؟ وهل تتولى الدولة الموضوع من الألف إلى الياء، أم يشارك القطاع الخاص الخير ورجال بلادنا الأوفياء الكرماء بالتبرع إما لإنشاء برج من أبراج المعرفة العلمية، أو بإنشاء دور في برج أو الاشتراك في مجموعة من المجلات العلمية. وللعلم فقط يوجد في العالم أكثر من ألف مجلة علمية مختصة بعلوم الأرض فقط الكثير منها يمكن الاشتراك به إلكترونيا وبالتالي يمكن قراءته عن طريق الحاسب.
وتنشأ المكتبة في وسط البلاد، على أحد الطرق السريعة حتى يمكن الوصول لموقعها بسهولة. كما تخصص ميزانية مبدئية من أجل التصميم والإنشاء، ويفتح باب التبرع لها، ويعين أحد أساتذة الهندسة المعمارية مديرا للمشروع حتى يكتمل البناء. ويوكل لأحد دور الهندسة المعمارية في بلادنا بعمل تصميم معماري إسلامي للمكتبة وملحقاتها، بحيث تتكون من أبراج علمية، كل برج يحتوي على أغلب ما كتب ورقيا وإلكترونيا عن نوع من أنواع المعرفة العلمية، فهناك برج مكتبة الكيمياء على سبيل المثال، يوجد فيه كل ما كتب عن الكيمياء، كما يوجد مكان تتوفر فيه المئات من الحواسيب لخدمة الاطلاع الإلكتروني في الكيمياء وبالتالي يجب الاشتراك في كل مجلة علمية إلكترونية موجودة في الإنترنت، وأيضا برج الفيزياء، وبرج علوم الأرض، وبرج الرياضيات، وبرج الكتب والمخطوطات النادرة التي يجب أن يصمم تصميما خاصا معزولا عن جميع المؤثرات التي قد تفسد المخطوطات أو تؤدي إلى تدهورها وهكذا. تبنى تلك الأبراج حول قاعة عظيمة للمؤتمرات نفخر بها.
ومستقبلا كل كاتب ومؤلف علمي يريد تسجيل مؤلفاته أن يرسل نسختين منها لمكتبة الملك فهد الوطنية للتسجيل ونسختين للإيداع في المكتبة العلمية العالمية، بجانب كل نسخة من مطبوعة علمية مكررة موجودة في أية مكتبة في بلادنا، فسيصبح لدينا نواة للمكتبة خلال فترة وجيزة عبارة عن مئات الآلاف من الكتب والخرائط والمطبوعات وخلافه.
والتساؤل هل تتولى الدولة- حفظها الله- تمويل المشروع، أم يشارك القطاع الخاص الخير ورجال بلادنا الأوفياء الكرماء بالتبرع إما لإنشاء برج من أبراج المعرفة العلمية، أو بإنشاء دور في برج أو إهداء الاشتراك في مجموعة من المجلات العلمية، وللعلم فقط يوجد في العالم أكثر من ألف مجلة علمية مختصة بعلوم الأرض فقط، لذلك فالتمويل لهذا المشروع يتم من خلال فتح باب التبرع أمام أهل الخير من رجال هذا الوطن لبناء تلك أبراج المكتبة، وبالتالي تحمل أسماء المتبرعين، كما يفتح المجال للتبرع والإهداء لتزويد تلك الأبراج بمختلف مقتنياتها، حيث يمكن أن يهدى لها مكتبات علمية من جميع الأفراد والجهات محليا وعالميا، كما ينشأ لها وقف يصرف عليها مستقبلا.
وأخيراً من يهتم برعايتها بعد إنشائها هل يمكن أن تقوم بذلك وزارة التعليم العالي وتبدأ بتزودها بالنسخ المكررة من مكتبة كل جامعة، أم تقوم بذلك مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، وتكون نواتها مكتبة المدينة، أو يقوم مجلس الشورى بتبني الفكرة لتصبح مثل مكتبة الكونجرس، أو مجلس الوزراء.
على كل سوف لا أخوض في تبعيتها المهم هو إنشاؤها. وتذكروا أن الكل منا الكبير والصغير، العلماء، والمتخصصون وغيرهم يأتون ويذهبون لكن المكتبة تبقى شامخة وباقية ما بقي الدهر تنمو لتغذي عقول الأجيال القادمة من أبناء هذا الوطن الغالي، أحفادي وأحفادكم بكل ما هو مفيد من العلوم.
واعلموا أن هناك رجالا عملوا على رفعة هذا الوطن، وتعاقبوا على حمايته واستقراره ونشر العلم فيه بجانب وجود الكثير من أبنائه المخلصين الذين يهبون للتبرع لما فيه خير هذه البلاد، ولا أدل على ذلك من التبرع بالكراسي البحثية في جامعاتنا، وكذلك إنشاء أبراج الوقف في جامعة الملك سعود.
وبما أن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز- أيده الله- أولى اهتماما كبيرا بمسألة تطوير منظومة العلوم والتقنية والمعلوماتية ودعم البحث العلمي وتشجيعه ومواكبة التوجه نحو اقتصاد المعرفة، والتوجيه بضرورة التطوير المستمر للأنظمة المعنية بالعلوم والتقنية فقد اهتم شخصيا - حفظه الله - بالتوجيه بوضع مشروع شمولي لمنظومة العلوم والتقنية والتوجيه بدعم وتنمية القدرات الوطنية في القطاعات المختلفة على النحو الذي يمكنها من توطين وتطوير التقنية ومنتجاتها، وخاصة المنتجات ذات القيم المضافة العالية.
كما اهتم - حفظه الله - بإنشاء المؤسسات التي تشجع الإبداع والابتكار ونشر التوعية العلمية والتقنية، وتقديم الدعم للمبدعين والمبتكرين من أبرزها مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع، ومؤسسة الرياض الخيرية للعلوم التي أنشأت (واحة الأمير سلمان العلمية المعنية بالتوعية العلمية)، إضافة إلى إدارة رعاية الموهوبين التابعة لوزارة التربية والتعليم، وإدارة التوعية العلمية التابعة لمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بالإضافة إلى المؤسسات الوطنية الأخرى التي تقدم دعما للتميز العلمي والإبداع. كما شجع الإبداع والابتكار وشجع على رصد العديد من الجوائز في المملكة لتكريم وتشجيع الإنجازات العلمية مثل جائزة الملك عبدالله للترجمة، وجائزة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز للبحث العلمي، وجائزة مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع، وجوائز إمارات المناطق في مجال الإبداع العلمي والابتكار وغيرها من الجوائز العلمية التي يقدمها القطاع الخاص، بجانب أنه تصدى للتحديات التي يواجهها قطاع التعليم العام وعمل على علاجها من خلال مشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتطوير التعليم العام، وذلك لتحسين نوعية مخرجات التعليم العام من خلال تطوير كفاءته الداخلية والخارجية في جميع مستوياته. هذا بجانب تضاعف عدد الجامعات منذ مبايعته للحكم من إحدى عشرة جامعة إلى 27 جامعة منها 20 جامعة حكومية و6 جامعات أهلية بجانب جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية وتلك الجامعات غطت جميع مناطق المملكة، كما أصدر أمره الكريم في عام 1426هـ بإطلاق برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي إلى أفضل الجامعات العالمية في مختلف دول العالم.
وعرفانا وتقديرا له- حفظه الله- لرعاية العلم والعلماء أحب أن أطلق على تلك المكتبة (مكتبة الملك عبدالله بن عبدالعزيز العلمية العالمية).
وأخيراً أرجو ألا أكون أحلم مع غيري فقط، وإنما أنا متأكد أنه يوجد في بلادنا رجال أوفياء قادرون على تحويل الحلم إلى حقيقة، ولذلك فإنني أنادي كل شخص يحب هذه البلاد من مسؤولين أو مواطنين بأن يسعى إلى تحويل حلم الجميع بوجود مثل تلك المكتبة في بلادنا إلى حقيقة، فهل تصبح يا أيها الخيرون بلادنا الطاهرة مهبط الوحي ومنبع الإسلام منارة للعلم والعلماء في الشرق الأوسط بها مكتبة علمية عالمية نفخر بها، ونصبح شعبا مثقفا ثقافة علمية.
والله من وراء القصد...
عضو مجلس الشورى