قال خَاطِبٌ لرافِضَتِه في الصيف حين جاءت تستجديه لبناً في الشتاء: (الصيفَ ضَيَّعْتِ اللبن).
|
وهذا المثل العربي تذكره كما تذكر (الخنساء) أخاها صخراً:
|
(يذكرني طلوعُ الشمسِ صخراً |
وأذكره بكل مغيب شمس) |
إذ نحن على موعد مع الأزمات نرقب فترات الذروة المخيفة في كل شأن من شؤون الحياة العامة، حتى لقد أصبحت الأزمات مألوفة، ما أن تبرحنا حتى تعود إلينا صادقة الوعد كزائرة (المتنبي) إلا أن ليس بها حياء، وسريعة العودة كجواد (امرئ القيس) ألمكر ألمفر المقبل المدبر معاً، ومع الصدق والسرعة تضارعها تنصلات مسؤولي المرافق المأزومة، كالماء والكهرباء والمرور وبعض المرافق الأخرى في لحظات الذروة حين تغور المياه، وينقطع التيار وتصبح الشوارع كتلا من حديد يغلي في مكانه، وفي الصيف يكاد يضيع كل شيء وليس اللبن وحده كما في المثل. ومنشطات الأزمات في الصيف تهب من كل جانب، زيجات بالمئات، ورحلات بالآلاف، وتموجات سكانية لا يقر لها قرار والتزامات مرهقة لذوي الدخول المحدودة، وتهافت محمود على ما لا يلزم وفراغ يقلب الأوضاع رأسا على عقب، تغلق المدارس والجامعات فتخرج الأرض أثقالها، ويصبح كل بيت:
|
ملاعب جنة لو سار فيها |
سليمان لسار بترجمان |
تعج بالأطفال المردة الذين يستيقظون حين يهجع الأسوياء وينامون حين تشرق الأرض بنور ربها، وفي ضجة الفراغ الممل تخور عزمات المرافق العامة وتمتلئ الساحات والمطارات والفنادق والمتنزهات، وكأن الناس في ذهابهم وإيابهم جراد منتشر يضيقون بكل شيء ويضيق بهم كل شيء تتضاعف المصروفات وتكثر الالتزامات وتتعدد المناسبات، ويخرج الناس من رعب الامتحانات إلى مشاكل القبول في الجامعات، ويضيع دم المسؤولية بين قبائل المسؤولين فلا تدري من تلوم ولا إلى من تتوجع، والذاهلون من تفاقم الأمور يخوضون في لجج ضاع فيها المجداف والملاح، ومخلفات كل صيف عصيب لا تحمل على تدارك الأمور وتفادي المشاكل والاستعداد لما هو آت من مشاكل تكرر نفسها، فهل ما يلاقيه المترفون ضريبة الترف المقيت؟ أم أننا كحليمة وعادتها القديمة؟ وكأن ليس لنا إلا اللحظة التي نحن فيها.
|
وإذ لا مستحيل فإن بإمكان كل متصرفٍ في أي مرفق أن يفكر ويقدر، وأن يستعرض كل الخيارات الممكنة لكيلا يكون محكوما بالعادة، فالكيس من أفادته التجارب وحزبته الظواهر وبادر الضربات الاستباقية والاحتواء المبكر قبل أن يتسع الخرق على الراقع، وقبل أن تتكاثر الضباء على فراش، فالغفلة والتسويف والتعذير والتبرير توهن العزم وتفوت الفرص، وهذا ما توصم به جل المرافق العامة، والصيف مفازة مضلة لا يعبرها إلا الخرِّيت إذ فيه ترتفع درجات الحرارة ويتقد الحصى ويذوب لعاب الشمس فوق الجماجم كما يقول (جرير) حتى تضيق بالناس بيوتهم وأسواقهم، ومن ذا الذي لم يتجرع المرارات في المطارات بين الاعتذار والإلغاء والتأجيل ومن ذا الذي لم يتفصد عرقا وهو يجوب الشوارع بحثا عن الماء والمأوى في المصايف ومن ذا الذي لم يلهث في أروقة الجامعات بحثا عن مقعد لابنه أو ابنته ومن من المسؤولين الذي لم يحاصر في مكتبه أو في بيته أو عبر هواتفه لإنجاز حق ممطول، وأي بيت لا يكون فيه مؤهل بدون عمل أو مؤهلة بدون مقعد دراسي وهل أحد ينكر أزمة الكهرباء بوصفها الأطول والأوسع والأعمق أثراً بما تتركه في النفوس من خوف وعناء وفساد للأطعمة ودمار للأجهزة وتعطيل للأعمال وإرهاق للأجسام وإفشال للحفلات وإرباك للمرور ولا سيما أن إنسان العصر وبخاصة في دول النفط تحول إلى إنسان آلي تسيره الآلة، فالكهرباء في محيطه كما القلب في جسمه، والطاقة الكهربائية مرتبط بها كل شيء من ساكن ومتحرك، وإشكالياتها أن أزمتها تتكرر كل عام:
|
(ويصدق وعدها والصدق شر |
إذا ألقاك في الكرب العظام) |
لقد جاء هذا الصيف أشد وأعتى؛ غبارٌ خانق وحرارة كفيح جهنم حتى لقد تململت الأرض من تحت سكانها، وكشف عن تقصير في التخطيط والتقدير، ومهما أوتي المسؤولون من قدرة على التعذير والتبرير والإقناع فإن الأزمة تظل مؤشر فوضى وارتجال وتخبط، وتقلبات الطقس المتوقعة لا يحكم إيقاعها إلا التخطيط الدقيق والتقدير المحكم واستشراف المستقبل، ولا سيما أن بلادنا بلد جذب يفد إليها الناس من آفاق المعمورة عبر الجو والبر والبحر، وتلك الملايين تشكل عبئا على كافة المرافق الخدمية، وقد لا يحسب لها الممول حسابا يغطي احتياجها فيكونون كالطفيليات التي تسبق الشعيرات على امتصاص الغذاء فيصاب الجسم ب(الأنيمياء) على أن بعض المرافق الخدمية تسير على البركة، ولهذا فكل مسؤول يشكو وضعه، وشركة الكهرباء بوصفها ذروة المشاكل لا تحد من مشاكلها الحلول المؤقتة ولا الجزئية، وإن كان لا يدوم إلا المؤقت - كما يقول المثل الغربي - فهي مثقلة بالديون والالتزامات والنفقات الباهظة والبطالة المقنعة والخسائر الفادحة وجل معداتها قد تجاوزت عمرها الافتراضي، ومن ثم فهي في سباق غير متكافئ مع متطلبات المرحلة، وأحاديث المجالس عما هي عليه من أوضاع يبعث على التشاؤم والإحباط، ومما يشاع أنها تبيع الطاقة بأقل من سعر التكلفة، وأن قطاعات متعددة لا تسدد قيمة استهلاكها، وهذا يضعها تحت طائلة استجداء الدولة واستنزافها غير المشروع للمال العام، وما نرجوه أن يكون ذلك من الشائعات المرجفة، وعلى الناطق الرسمي في الشركة أن يواجه الناس بالحقائق ليقطع دابر الشك، والمتابعون للتصريحات التطمينية لا يجدون بارقة أمل، فالمشكلة على ضوء المتداول غير مقدور على حلها في ظل الإمكانيات المتاحة، وعلى أية حال ف:
|
(قد قيل ما قيل إن صدقًا وإن كذبًا |
فما اعتذارك من قول إذا قيلا) |
والوعود المتلاحقة هدهدة بمعسول الكلام الذي لا يغني من الحق شيئا، ولما لم يكن بمقدور أي مرفق خدمي أن يذلل العقبات بالقول ولا أن يستل السخائم بالوعود فإن على القائمين على تلك المرافق أن يأتوا بنيانهم من القواعد، فالتسويف لا يزيد المشاكل إلا تجذرا.
|
ومما يزيد الوضع سوءا واستياء أننا في زمن مواتي وفي ظل إمكانيات مادية لا نظير لها، ومساعداتنا السخية بلغت آفاق المعمورة ومكنتنا من انتزاع لقب (مملكة الإنسانية) فكيف بنا إذا شحت الموارد وكسدت الصادرات وتعددت الالتزامات، واستوفت المشاريع العملاقة عمرها الافتراضي، ولا سيما أننا نعيش تحت وطأة الانفجار السكاني الذي لا يدانيه أي نمو وفي خلل التركيبة السكانية التي لا تشبهها تركيبة سكانية إذ أسوأ التركيبات عندنا التركيبة العمرية، فالمملكة يصدق عليها اسم مملكة الشباب، والمقبلون على الحياة لهم مطالبهم العلمية والعملية والسكنية والخدمية.
|
والتركيبة العمرية تواكبها إمكانيات مادية تفرض التوسع الباذخ في الإنفاق والاستهلاك، وحساباتنا المتناظرة مع الآخر تفاقم الأزمات فالمواطن السعودي في استهلاكه واستعماله وسكنه لا يدانيه في نهمه أحد، وذلك مكمن الأزمات والاختناقات، فإذا قدر له ما يقدر لنظيره في أي بلد عربي أو غربي وإذا رتبت الأمور على هذا التقدير فوجئ المسؤول بخطأ التقدير لأنه تقدير مع الفارق، ومثلما نخطئ في التقدير مع الأناسي نخطئ أيضا في التقدير مع (المدن) الرئيسة، فالمشاريع المنفذة بمدينة ك(بريدة) - على سبيل المثال - قدر حجمها واستيعابها على قدر سكانها المقيمين دون مراعاة لظواهر الجذب والهجرة وتفضيل المجاور لمرافقها ظنا منه أنها الأفضل بحيث تصبح مرافقها لكل أبناء المنطقة، فيما تستقبل كل محافظة مجاورة بمشاريعها لا يشاركها فيها أحد، إن لغة الأرقام تقطع قول كل خطيب ولكن الهوامش والخصوصيات قد تطغى على المتون بحيث يستغل المشروع من المستهلكين أضعاف ما قدر له، وذلك مكمن الإشكالية لكل مدن الجذب.
|
كما أن من مؤشرات التأزيم مبالغة بعض الوزارات في المشاريع الثانوية وعدم الدقة في ترتيب الأولويات، وتحكم ممثلي وزارة المالية عند مناقشة الميزانيات المقدمة، وشطب بعضها بطريقة عشوائية، وقد تتحكم الإقليميات والمحسوبيات والعلاقات في المصالح، كما أن تكتم المرؤوسين على جوانب التقصير لا يضع المتسبب أمام المسؤولية.
|
إن صيفا يضع الأمة أمام نفسها لجدير بأن يكون المحك والمرآة ومن بدت مرافقه في ساعات الذروة أكثر ثباتا فهو الأصلح والأنصح والأنسب لمواجهة المعضلات.
|
ونعود لنقول إن المسؤولين كافة على موعد مع الصيف فهو وحده الذي يعري الحقائق ويحرج الفوضويين فهل نستطيع الخلوص من تكرار المشاكل وإلفها باعتماد (الإستراتيجيات) واستشراق المستقبل والسيطرة على فترات الذروة دون أن يتحمل المواطن مراراتها وحده؟
|
إننا أمام إخفاقات ذريعة وأزمات خانقة وبإمكاننا أن نتجاوزها متى واجهنا الحقائق بثقة وقلنا للمخطئ أخطأت وللمحسن أحسنت.
|
|