حينما يتمتع العقل بدرجة عميقة من الكفاءة فإنه يظل في حراك تساؤلي دائب فهو - نتيجة لتحلّيه بحساسية عالية إزاء التفاصيل والمفردات الضئيلة التي لا يُكترث بها في الغالب - دائما يطرح الأسئلة تلو الأسئلة لكي يتجاوز القشور إلى اللباب فلا يقف عند العرض بل ينفذ إلى المرض.
هذاالعقل الإشكالي السؤول يعيش حالة من التوتر الفضولي الدائم الذي يرفض الركون إلى الإجابات التي تدعي الاطلاقية بل يحاصرها بالأسئلة التي تؤكد نسبيتها ويجعل من الإجابة صيرورة متواصلة مدعوة إلى تجاوز ذاتها إبان مقاربتها. البنية العقلية ذات الرحابة في إدراكها تستمد قوتها الحقيقية من طبيعة الأسئلة التي توجهها إذ إن آلية السؤال وماهيته ومدى حدته ومستوى عمقه ونوعية المفردة المستهدفة بالسؤال يفصح وإلى درجة كبيرة عن المستوى الذي تتحلى به تلك العقلية التي تمخض عنها ذلك السؤال. كلما سمت التركيبة العقلية كلما توالدت منها الأسئلة بينما تكف عن التساؤل كلما وهنت حيويتها وكلما باتت إلى التكلس أقرب. صاحب العقلية المتحفزة يتسم بنهم تساؤلي فعقله ثائر لايهدأ, ولا يقر له قرار فهو في حالة استنفار متواصل إنه يتخذ من الأسئلة سبيلا للتّماس مع الحقيقة الغائرة في القاع اللجي كما يتخذ منها وسيلة لفتح آفاق جديدة يتعذر العثور عليها دون قدح زناد العقل وإشعال شرارته التساؤلية الأولى. الانطباع العام المختزن في باطن الذاكرة الشعبية هو أن السؤال آية جلية على محدودية المعلومات وعلى سطحية الأفق الثقافي! وغني عن القول عدم منطقية مثل تلك الأدبيات المتوارثة والتي تملي علينا ضرورة ترويج ثقافة مضادة تحتفي وعلى نحو لا متناه بإثارة الأسئلة وصياغة الاستفهامات المعبرة عن سوية سامقة من القلق المعرفي. صاحب العقلية الخاملة لا يطيق عناء المحاكمة والتمحيص بل ينفر من قلق السؤال واهتزازاته ويتشرب الجهل بشكل تلقائي, عقله فاقد لآليات الفلترة, ولذا فهو يقتنع بأي إجابة ويحوز على إعجابه كل عمل مهما كان خاليا من عناصر الجاذبية وتتسلل إلى ذهنه وبسهولة كل فكرة حتى ولو كانت في منتهى التقليدية فهو ينشدّ إلى كل صوت ويؤخذ بكل تيار, ويعجب بكل شخصية حتى ولو كانت غير خليقة بالإعجاب!. إنه جراء كسله العقلي دائما تنطلي عليه التسويغات فيرضى بأي تبرير, لا يثير إستغرابه الشيء غير المألوف ولا يبعث دهشته عنصر المفاجأة ولا يستفز التساؤل لديه مايشْدَه الألباب! على نحو لا ينم إلا عن بلادة ذهنية آخذة عليه أقطار ذاته, ومعيقة له عن مغادرة الأطر المألوفة؛ وعلى النقيض منه ذو العقلية المتوثبة فهو يتعاطى مع الأشياء برؤية نقدية تحليلية, إنه كثيرا ما يبحث عن المسكوت عنه والمهمش والمهمل والمنزوي ويرتاد دائما آفاق المجهول ويتغلغل في أعماق الظلام. إن العقلية المفعمة بالانكسار والمتخمة بالغباء ترفض الفعل وتكتفي بالانفعال فهي عقلية اجترارية مفتقرة لإمكانات التجاوز لا يتفتح وعيها على مواطن القصور إلا على نحو محدود وهذا ما يولد لدى صاحبها شعوراً عميقاً بالرضا ومن ثم يجنح إلى القعود, تضاؤل الأسئلة لديه ترشحه للانزلاق إلى مربع اليأس وفقدان الأمل والاعتقاد بانسداد الآفاق؛ طبعا قد يكون هذا العقل المتسطح مكتظا بالمعلومات وقد يكون متربعا على أعلى درجات السلم الأكاديمي ولكنه مع ذلك يفتقد للروح التساؤلية لأنه يمتلك (عقلاً متذكراً) ولايمتلك (عقلاً متفكراً), وثمة بون شاسع بين الاثنين!. أما العقل الألمعي المندد بالألمعية والمدجج بالأسئلة فهو يجعل من استفهاماته مصدرا كبيرا يمكنه من معاينة الفرص بل قد يتجاوز ذلك إلى توليد الفرص وصياغة أشكالها، حيث يكشف العقل الحيوي المتألق عن آفاق الممكن الحضاري المتواري أحيانا, ويباشر صياغة تلك الآفاق والفرص أحيانا أخرى. عندما ينتفض العقل وتلتهب بنيته يستبد به القلق فتشتعل لديه نار الأسئلة ويسيطر عليه جراء ذلك شغف بهز العادات الفكرية وزعزعة التقاليد الثقافية التي لا تستمد مكانتها مما تنطوي عليه من روح موضوعية؛ بل من ارتفاع منسوب كثافة تدوالها! فيضعها على محك النقد ويمطرها بوابل من الأسئلة التشريحية التي تفككها ومن ثم تعيدها إلى مكانها الحقيقي خارج إطار التاريخ.
Abdalla_2015@hotmail.com