جمعتني الصدفة بمسؤول (كبير) في رحلة جوية كرمني فيها بأن طلب من مرافقه أن يستبدل مقعده بمقعدي بعد إعلان إقلاع الطائرة وكنت محرجا بشكل كبير فمثل هذه الشخصية تستحق أن يتاح لها الوقت لتستريح لا أن تشغل بأحاديث لا طائل منها، ومع ذلك أصر، وأنا وافقت بالطبع عودا إلى ما أكنه له من تقدير لا نفاق فيه لمنصبه ودرجته العلمية مع أنني أكبره سنا، إضافة إلى أنه صاحب الفضل والتواضع أن دعاني لأكون رفيق درب، تحدثنا كثيرا في الفن وسألني عن حال النشاط التشكيلي وكانت فرصة لأن أنقل له معاناة التشكيليين من قلة المقتنين ومن شح الدعم من قبل القطاع الخاص إلى آخر المنظومة، وفي لحظة تلقينا وجبة الغداء التي شكلت فاصل إعلاني انتقلنا بعده إلى ما يمكن اعتباره مربط الفرس إذ قال وهو يبتسم: الذي أعرفه.. أخ محمد.. أن الفن وسيلة وسبيل لبناء الشخصية وكثيرا ما نرى المبدعين في مجالات الفكر والقلم والريشة أو التمثيل والموسيقى أكثر الناس رهافة في الحس ورقيا في التعامل مع الآخرين وقدرة على امتصاص المواقف وهدوءا عندما تثار زوابع الحوارات، كما إن تلك الفنون بما فيها الفن التشكيلي رسالة وجدانية عظيمة، وعطاء إنساني يساهم في بناء الحضارة الإنسانية. قلت له مستغلا لحظة صمته لانشغاله بتناول الطعام: هل وجدت عكس ذلك..؟
لحظتها قال وهو يزيل ما علق على أطراف أصابعه من طعام: لقد جمعتني الظروف بزميلكم (فلان) في مجلس لأحد الأصدقاء الذين يعشقون الفن التشكيلي، سأله أحد الضيوف عن حال النشاط التشكيلي فلم يترك هذا الزميل الفنان أحدا من التشكيليين والإعلاميين إلا وأساء إليه بالعبارات الجارحة وصولا إلى أصدقاء له سابقين عمل تحت إدارتهم ممن خدموا الفن والثقافة، ما دفع المضيف إلى تغيير الموضوع بشكل سريع لئلا تمتد الإساءة لا قدر الله إلى أسماء أخرى.
ثم أكمل رفيق الرحلة حديثه قائلا: إن من يمتلك القيم الفنية سيمتلك الكثير من المكتسبات التي تطور عوامل التعبير ومنها استنهاض المعاني السامية في الروح والارتقاء بها، ولهذا ينبغي منكم معشر المبدعين أن تدركوا مشاعر الآخرين، فأنتم خلال إبداعكم تمرون بمراحل تكتشفون بها جزئيات العمل الفني وتدركون مسبقا ماذا سينتهي إليه، ومنها تتعلمون كيف تتعاملون مع بقية زملائكم أولا ومع بقية محبي هذا الفن عبر ارتقاء شخصياتكم التي نتوقع اختلافكم بها عن الآخرين بما منحكم الله من موهبة. انتهى الحديث بعد أن أعلن الكابتن وصولنا إلى المطار؛ ما اضطرني للعودة إلى مقعدي معيدا شريطا طويلا من المواقف المعروفة لذلك الزميل الذي استشهد به محدثي وبفعله هذا مع أن هذا الفنان لا يمثل إلا نفسه وما أصبح مشهورا به بين بقية الفنانين. وأدركت أن من بيننا فنانين وضعوا بين عقولهم وبين فنهم (فاصلة).
MONIF@HOT MAIL.COM