كتب - فهد المقبل:
أوضح الشيخ علي بن عمر بادحدح الداعية المعروف في حديثه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه من أعظم أعمدة الدين التي تقوم عليه جميع جزئياته، فبه يحفظ للأمة عزتها وكرامتها، وبه تدوم النعم وتبسط الخيرات، وبه تحفظ دماء المسلمين وتصان أعراضهم، وبه تنتشر الفضيلة وتنعدم الرذيلة وقد استهل حديثه بذكر مثالٍ منطقي يدل على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: في بيت من البيوت أراد أحد الأبناء أن يشعل النار لغرض من الأغراض، لكنه جعلها تشتعل في شيء من الأثاث وجانب من البيت، فبادر آخر ليطفئ تلك النار بالماء وقت اشتعالها، فزجره ثالث بدعوى ألا يتلوث الأثاث بالماء.
وعلق بقوله وأحسب أن مثل هذا لا يتصور وقوعه على النحو الذي ذكرته، لكنه يحكي صورةً تشبه واقعنا الذي نعيشه سواء كان ذلك في بيوتنا كآحاد وأفراد، أو كان في مجتمعنا كمجتمع وأمة.
وأردف فضيلته وأبلغ من مثالي هذا، وأعمق منه دلالة، وأظهر تأثيراً ما قاله سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- حيث ضرب لنا المثل الذي يستحق منا كل تدبر وتأمل، وهو حديث مشهور محفوظ عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه- عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).
وخلص بقوله فسفينة الحياة والمجتمع كلنا ركاب فيها..
وبيّن فضيلته أن الجميع يلتمس الوصول بهذه السفينة إلى شاطئ الأمان وقال كلنا يدرك أن أي أثر سلبي أو إيجابي في هذه السفينة يلمسه مباشرة، فإن تعرضت لخطر الغرق فهو قطعاً سيكون واحداً من الغرقى، وإن نجت وأسرعت فهو من السالمين الغانمين بإذن الله عز وجل.مشيراً لقول ابن النحاس في توضيح هذا التشبيه بقوله: الدين سفينة النجاة إلى الآخرة، وسفينة هذه الدنيا كسفينة من ضرب فيهم المثل عليه الصلاة والسلام، فالذين يخرقون في السفينة يسببون الهلاك لجميع من في السفينة، ومثلهم الذين يخرقون في سفينة نجاتنا في دنيانا إلى أخرانا. أي: الذين يخرقون في الدين، وهذه شركة واضحة، فالجميع على حد سواء، المسلمون مشتركون في الدين الذي هو النجاة في الآخرة كاشتراك أهل الدنيا في السفينة التي هي نجاتهم في الدنيا، وكما أن السكوت على شركاء السفينة إذا أفسدوا فيها يكون سبب هلاكهم، فكذلك المسلمون عند تركهم الإنكار على الفاسق يكون سبب الهلاك لهم، فإن أخذوا على يده -أي: أخذ بعضهم على يده- حققوا سبب النجاح، وذلك مثل ظاهر في فرض الكفاية، إذا قام به البعض قياماً يفي بالغرض لم يكن في ذلك عتب أو حاجة في دور الآخرين، ثم قال: لا يعترض على من ينكر المنكر إلا من عظم حمقه، وقل عقله، وجهل المعصية وشؤمها.
وأردف قائلاً: عندما يأتي خارق السفينة ليخرقها هل تظنون أحداً يثني على فعله، أو يقول تلك حرية شخصية، وهو إنما يفعل شيئاً يخصه حتى ولو كان في دينه وخلقه أو في أهله وزوجه أو في بيته وخاصة نفسه؟ وهل ترون أحداً في هذه السفينة ينظر إليه وهو يخرق الخرق في نصيبه ويتأمل متعجباً أو ينظر إليه متبسماً أم أنه لا يملك إلا أن يمنعه؛ لأن الضرر لا يخصه بل يتعداه إلى غيره، ولا يقدم من الشركاء على خرق السفينة إلا من هو يستحسن ما هو في الحقيقة قبيح، ويجهل عاقبة فعله الشنيع؟ وكذلك العاصي المقترف لما حرم الله سبحانه وتعالى، والحديث ظاهر في دلالته، وأزيد في إيضاحه ببعض رواياته التي تبين المزيد من معانيه، فقد ورد في الحديث روايات أخرى منها رواية عند الإمام أحمد في مسنده قال: (مثل أولئك مثل ثلاثة ركبوا في سفينة، وعندما قام أحدهم يخرق في نصيبه، قال الآخرون: لا، فإن أخذوا على يديه نجا ونجوا جميعاً، وإن تركوه هلك وهلكوا جميعاً).وفي رواية ثالثة (مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، والمداهن فيها). فهنا أقسام ثلاثة: الواقع أي: المرتكب للمحرم والواقع في المنكر، والمداهن فيها أي: المجامل الساكت المضيع للحقوق، التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما القائم على حدود الله فهو المستقيم على أمر الله فعلاً لأمره وتركاً لنهيه، ومن ذلك قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأقسام الثلاثة ظاهرة بينة في واقع حياتنا.......
وعقّب فضيلته قائلاً في الآونة الأخيرة تذكر أخبار هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهودها المشكورة، وأعمالها المبرورة التي رأيناها في الواقع دائمة، وليست مؤقتة، ولكن الذي أظهره الإعلام في الصحف مؤخراً أنهم استطاعوا مرات ومرات أن يكتشفوا مثل هذه الجرائم في هذه الشبكات الأخلاقية المنحلة، وفي توزيع الخمور والمخدرات وغيرها، لكن عجبي! هو أن البعض لم يذكر لهم ذلك الخير، بينما ترى بعض الكتاب ينتقدون الهيئة إذا أخطأ عضو من أعضائها في أسلوب من الأساليب أو في موقف من المواقف، فيقيمون الدنيا ولا يقعدونها، ويكتبون على التشدد والتزمت والتطرف وغير ذلك، ويكتبون لنا عن الاعتداء على الحريات الشخصية، وعلى التنفير من الدين وغير ذلك، لم لا يكتبون عن هذه الجهود التي هي حماية لنا، ووقاية لأبنائنا، وسلامة لمجتمعنا، وحفظ لديننا وإيماننا وإسلامنا؟! لماذا لا تذكر إلا المثالب إن صح وقوعها؟! لماذا لا نكون صرحاء؟! لماذا نشعر حينئذ بأن الأمر إنما هو تلمس المعايب وتتبع القبائح على افتراض وجودها مع أن غاية ما يقال فيها: إنها أخطاء اجتهادية أو ممارسات فردية؟! إن ذلك يدلنا على أن كثيراً من هذا الزخم الإعلامي ليس معنياً في الحقيقة لمصلحة المجتمع، ولا بالأثر الإيجابي فيه بقدر ما يعبر فيه أولئك الكتاب عن ذواتهم وأهوائهم ونزواتهم ورغباتهم وآرائهم الشخصية، ضاربين عرض الحائط بالمجتمع ومصالحه وكل ما يتعلق به، وهذه مسألة خطيرة مهمة، وهذا أمر ينبغي لنا نحن ألا نكون كذلك، ينبغي أن نشكر الله عز وجل ونحمده على كل من يقوم بأمر بمعروف ونهي عن منكر؛ لأنه يدفع عنا سخط الله وعذابه؛ لأنه يدفع عنا فتنة وبلاء؛ لأنه يكون سبباً من أسباب نجاتنا وعدم استحقاقنا للعذاب.
واختتم فضيلته حديثه بالتأكيد على أن من أعظم التقوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والغيرة على حرمات الله، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل حب لله، وتعظيم وإجلال له؛ لأنه كما قالت عائشة أم المؤمنين في وصف سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: (ما نيل من شيء قط فينتقم لصاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم منه) رواه مسلم . قال ابن القيم في شأن هذه الغيرة: المهم أن نحميها في قلوبنا، أي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضيع، ودينه يترك، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها وهو بارد القلب، ساكت اللسان، شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق؟! وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم فلا مبالاة بما جرى على الدين وأهله؟ وتأملوا فقه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: سئل ابن مسعود رضي الله عنه: مَنْ مَيتُ الأحياءِ يا ابن مسعود؟ قال رضي الله عنه: (الذي لا يَعرِف معرُوفاً، ولا يُنكِر مُنكَراً) فكم بين أحيائنا أموات وإن كانوا يتحركون ويتكلمون ويأكلون ويشربون ومن المآثر المهمة لمثل هذه الشعيرة: أن تبقى الذكرى قائمة، وأن يبقى ما ينزع وما يبطل الغفلة حياً مذكوراً مشاعاً في المجتمع، حتى لا تغفل العقول، ولا تموت القلوب، ولا تخمد النفوس في دينها، بسبب عدم إنكار المنكر الذي يرتكب في واقعها ومجتمعها.