كانت الحلقة السابقة قد انتهت بسؤال عما إذا كان هناك اختلاف في المضمون بين خطاب الرئيس الأمريكي أوباما المعسول لفظاً وأسلوباً وخطاب نتنياهو المليء صلفاً وصفاقة. وقبل المقارنة بين الخطابين لرؤية مدى اختلاف أحدهما عن الآخر إن وجد اختلاف حقيقي تحسن الإشارة إلى أن الرئيس أوباما كغيره من زعماء غربيين آخرين.....
..... يطلب من العرب أن يبدوا تنازلاً أكثر مما أبدوا، سواء سموا ذلك شجاعة أم سموه باسم آخر. ومن المعروف أن زعماء العرب قد قرروا في مؤتمر الخرطوم - رحم الله من قرروا ورحم ما قرروا - عام 1967م: أنه لا تفاوض مع إسرائيل، ولا صلح معها، ولا اعتراف بشرعية وجودها على أرض فلسطين. والآن تنازل الزعماء العرب عن كل تلك الأمور الثلاثة.
بمعنى أن الجوانب المهمة الباقية في القضية الفلسطينية بعد كل هذه التنازلات هي:
أولاً مسألة عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم. ومن المعروف أن الأمم المتحدة - برغم تحكم الدول الكبرى بها - قد أقرت حقهم في العودة. رغم أن الرئيس أوباما قال: إن العرب يلقون باللائمة على قيام إسرائيل الذي نتج عنه تشريد الفلسطينيين، فإنه لم يشر إطلاقاً إلى أن لهم الحق في العودة، الذي أقرته الأمم المتحدة، وهو حق يشمل اللاجئين بصفتهم جزءاً من شعب، ويمتد إلى كل فرد منهم. فإن تنازل عن العودة من تنازل فإن له حق التعويض. أما نتنياهو فلم يستعمل التقية، بل كان صريحاً كل الصراحة، إذ قال: إنه لا عودة للاجئين، بل على الدول التي هم فيها حل مشكلتهم، وليساعدهم من يساعدهم. وعدم ذكر الرئيس أوباما للمسألة لا يعني - بطبيعة الحال - أن له رأياً مختلفاً عن رأي نتنياهو حولها. بل إن المرء ليوشك أن يعتقد بأن السكوت علامة الرضا في الموضوع، وبخاصة أن أحد المعلقين الأمريكيين قال عن خطاب نتنياهو بعد إذاعته بساعات: إنه لا يختلف من حيث الجوهر عما ورد في خطاب الرئيس في القاهرة.
ثانياً: مسألة الانسحاب إلى حدود ما قبل حرب 1976م. من الواضح أنه لا الرئيس أوباما ولا نتنياهو قد أشار إلى ما يوحي بالانسحاب الصهيوني من الأراضي التي احتلت نتيجة تلك الحرب، أو ذلك العدوان. والقدس جزء مهم من تلك الأراضي المحتلة، بل الجزء الأهم. أما نتنياهو فكان صريحاً كل الصراحة، أو وقحاً كل الوقاحة، في إيضاحه أن القدس ستظل عاصمة موحدة لإسرائيل، ولا تفاوض حول ذلك. لكن الرئيس أوباما استعمل ما يسمى أسلوب الحكيم؛ إذ نادى بأن تكون القدس مهداً للديانات السماوية الثلاث، مشيراً إلى صلاة أنبياء تلك الديانات جماعة فيها. لكن هل تعود السيادة فيها إلى الحكم العربي الإسلامي، الذي كانت في ظله قبل حرب 1967م، أو تبقى فيها سيادة المحتل المهوّد لها يوماً بعد آخر؟ هذا ما لم يوضحه الرئيس الأمريكي وإن كان لا يفهم من عدم توضيحه أن يرى تخليصها من الاحتلال.
أما بقية الأراضي التي احتلت عام 1967م فنتنياهو يقول لا بد من الإبقاء على المستعمرات التي بنيت فيها، فالتهمت أكثر تلك الأرضي، ولم تبق إلا بؤر بينها، وتنميتها. أما الرئيس أوباما فطالب بتجميد البناء، والنتيجة النهائية متشابهة. فلا قدس عربية إسلامية، ولا إزالة للمستعمرات في الأراضي المحتلة.
ثالثاً: إقامة دولة فلسطينية. دعا الرئيس أوباما كما دعا بعض من سبقه من رؤساء أمريكا إلى إقامة تلك الدولة. وقال لا بد من قيامها جنباً إلى جنب مع دولة إسرائيل. لكن أين حدود هذه الدولة؟ أعلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م بكاملها أم على بؤر منها؟ ذلك ما لم يرد إيضاحه أو لم يستطع قوله. وما طبيعة تلك الدولة؟ هذه الطبيعة أوضحها من لم يرد استعمال تقية لأنه ليس في حاجة إلى ذلك. لقد وصفها وحددها - كما سبق أن ذكر - نتنياهو بما لا يصح أن يطلق عليه كلمة دولة، بل هي اسم مجرد، أهم واجباته أن يكون بمثابة حرس درك لحماية أمن الكيان الصهيوني. فلا سيادة لها على حدودها - هذا إن حددت لها حدود - ولا على سمائها، ولا حق لها باقتناء أسلحة ولا عقد اتفاقيات قوة مع دول أخرى. على أن ما يلفت النظر هو أن الإدارة الأمريكية عدت ذلك خطوة إيجابية تستحق الثناء والتشجيع رغم ما وصف به نتنياهو تلك الدولة المقترحة.
رابعاً: طبيعة الدولة الإسرائيلية. كان رفض العرب القبول بشرعية وجود تلك الدولة على أرض فلسطين عندما كانت لهم إرادة يعد واجباً وطنياً لدى جميع الزعامات العربية، ناهيك عن الشعوب. وبغياب الإرادة قبلت شرعية ذلك الوجود. والضعف يجر إلى ضعف، تماماً كما يقود التفرعن الصهيوني إلى مزيد من التفرعن.
في الآونة الأخيرة لم يكتف الصهاينة مؤيَّدين تأييداً جلياً من المتصهينين، بالمطالبة بالاعتراف بدولتهم، بل أضافوا إلى ذلك أن يُعترف بكيانهم دولة (يهودية). وكل فاهم بمجريات الأمور ودلالات المصطلحات يعلم ما تعنيه (يهودية) الدولة. ومما يعنيه الاعتراف بذلك تمكين الصهاينة - متى رأوا ذلك مناسباً - من استعماله وسيلة لما يسمى الترانسفير، أي التطهير العرقي بالتخلص من العرب الموجودين في فلسطين قبل الاحتلال الصهيوني لها عام 1948م وما زالوا فيها. ومن باب أولى رفض مجيء أي واحد من اللاجئين الفلسطينيين خارجها. وإصرار زعماء الصهاينة على الاعتراف بيهودية دولتهم لم يأنف الرئيس أوباما - كما لم يأنف سلفه - من التجاوب معه. لقد أوضح هذا التجاوب في خطابه الموجَّه إلى العالم الإسلامي، الذي أصاب زعماءه ما أصابهم من وهن، وفقدوا من ثقة شعوبهم بهم ما فقدوا، ودُجِّنت هذه الشعوب كل التدجين. ثم عمق ذلك التجاوب وزاده إيضاحاً بتكرار التأكيد عليه. ومن ذلك تأكيد مندوبه إلى المنطقة، ميتشل، في لقائه مع نتنياهو.
أما بعد ذكر ما سبق فإن كاتب هذه السطور بوده أن يكون متفائلاً دائماً بمستقبل أمته؛ فالمؤمن مأمور بالتفاؤل بالخير ليجده. لكن مجريات الماضي القريب ومشاهد الحاضر لا تشجعان على ذلك. كان تعليق السيد عريقات على خطاب نتنياهو تعليقاً واضحاً جاداً. لكن هل هناك إمكانية للتمسك به موقفاً فلسطينياً يضع الزعامات العربية في موقف لا تحسد عليه إن لم تتمسك به؟ لم أجد من كل ما سمعته من تصريحات من صرح من تلك الزعامات ما يشير إلى تمسكها بما تضمنه ذلك التعليق. بل يبدو لي - وأرجو أن يكون ما يبدو لي غير صحيح - أن الأمور تتجه إلى العمل على ما يناقضه. الذي يتوقع كاتب هذه السطور حدوثه - وهو يرجو أن يخالف ما يحدث توقعه - ما يأتي:
1- ازدياد خضوع العرب للإرادة الأمريكية، التي لا تختلف سياستها - بصفتها دولة مؤسسات - من حيث الجوهر، وإن بدا اختلاف في أسلوب طرحها، كلاماً معسولاً مثل كلام أوباما أو لفظاً مكروهاً مثل كلام أركان إدارة سلفه. وإذا كان من المسلَّم به أن العرب أمة يغريها الكلام حتى تبنت حكمة (الكلام الليّن يغلب الحق البيّن) فإن بوادر المزيد من خضوع العرب واضحة كل الوضوح.
2- ازدياد تغير مفهوم الأمور. فلقد كان نجاح أحد الزعماء العرب في إقناع عدد من الدول، وبخاصة الإفريقية، في قطع علاقاتها مع الكيان الصهيوني يعد مفخرة وإنجازاً وطنياً عربياً إسلامياً، والآن أصبح يوجد من هؤلاء الزعماء من يتجرأ فيقول: إن حل قضية فلسطين مفتاحه بأن تعترف جميع الدول الإسلامية بشرعية دولة إسرائيل. ازدياد ذلك التغير في مفهوم الأمور لن يستغرب في ظله أن يوجد من ينادي بأن يكون الكيان الصهيوني قائده في مسيرته.
3- استبعاد أن ترجع القدس إلى السيادة العربية الإسلامية، وذلك في ضوء تمسّك زعماء الصهاينة من جميع توجهاتهم السياسية بتلك المدينة موحدة تحت سيادتهم. وسيزداد تهويدها، ويتسارع. والله أعلم بما سيكون عليه مصير المسجد الأقصى إلا إذا رأى الصهاينة بقاءه ليستغل مورداً اقتصادياً سياحياً يتباهى أتباعهم بالسيطرة عليه، ويتسابق العرب إلى السفر إليه، وإن كان تحت تلك السيطرة.
4- سيزداد ضرب المقاومة الفلسطينية بمختلف الوسائل: اغتيالات واعتقالات وتضييقاً.