Al Jazirah NewsPaper Wednesday  15/07/2009 G Issue 13439
الاربعاء 22 رجب 1430   العدد  13439
تذكرة!!
د. هشام السحّار

 

لم أنتبه كيف بدأ الحوار.. فقد كنت أقاوم تلك الحالة التي تصيب من يتابع الدقات المتتالية المتصاعدة من تلاقي عجلات الترام مع قضبانه الحديدية المختفية بين مربعات الأحجار الصغيرة.. التي كانت تخجل من بقائها عبر تلك السنين.. في ذلك الشارع العتيق.. فتحاول أن تغطي وجهها بطبقة رقيقة من الأسفلت فتبدو كما لو كانت ممهدة.. ولكن دون جدوى.. هي أحجار.. وستبقى أحجاراً كأنما هي خاصية مصرية.. ألا تبقى إلا الأحجار..

كان الجو حاراً وهكذا يكون دائماً في شهر أغسطس.. بحار العرق تحيط براكبي الترام.. والنوافذ مغلقة.. لا هواء لا شيء سوى الخبطات الهادئة الرتيبة التي لا تلبث إلا أن تتزايد وتتزايد.. ثم تهدأ وتهدأ حتى يقف الترام مرة أخرى..

كان الحوار يأتي من نهاية العربة.. رجل طويل القامة.. محنى الظهر.. وجهه ساحة قتال مع الزمن تحكي تفاصيل معركة مريرة.. تتضح تحت العينين وفي الجبين ثم ذلك الشعر الأبيض المنكوش.. وتمتد لتشمل جسده كله ويديه المعروقتين والأصابع الطويلة المهتزة.. بل وتشمل كذلك ثيابه الرثة البالية..

كان صوته غير مسموع حتى للكمساري الذي يحاوره؛ فقد كان يميل بجسده للأمام حتى يقرب فمه من آذان الكمساري ويتكلم.. لا أسمع ماذا يقول لكن من المؤكد أنه يتكلم.. فسرعان ما رد الكمساري بصوت شاب عالي النبرات: (يا عم من غير دوشة - يا تدفع يا تنزل).

زاد انتباهي للحوار.. وخرجت من دائرة الأصوات المتكررة.. صار صوت الرجل مسموعاً كالهمس: (معلش يا ابني.. ماعييش فلوس.. دانا نازل قريب).

لكن الكمساري قاطعه: (مافيش فلوس.. يبقى مافيش ركوب) ثم بنظرة متهكمة وصوت أكثر تهكماً.. أردف قائلاً: (امشي أفيد لك).

فالتفّت عينا الرجل وهو يقول (ما أنا يا ابني لو أقدر أمشي كنت..) ولم يكمل جملته فسرعان ما كان الكمساري يطلق صفيراً حاداً أوقف حركة الترام ثم نادى على السائق في العربة الأمامية ليفتح الأبواب ثم التفت إلى الرجل الجامد في مكانه.. (يا لا يا سيدي.. ما تعطلش مصالح الناس.. تدفع تذكرة على عيني وراسي.. مافيش مع السلامة)..

هنا فقط أحسست أن بالعربة ركاباً؛ فقد سمعت أصواتاً مختلفة تهمهم.. (إحنا ناقصين عطلة.. سيبه يا عم.. يعني جت على ده).

لكن الأصوات ما لبثت أن خفت والكمساري يتلفّت إليهم متهكما (يا سلام على هيئة المحامين طب ما حد يحط إيده في جيبه ويدفع.. ولا هو كلام).

مرت بعد هذه الجملة ثوان كأنها ساعات.. والصمت عاد وأحاط بالعربة فلم يعد فيها ركاب.. اختفى الجميع وتراجعوا لخلفية الأحداث.. دخلوا في نفوسهم مرة أخرى.. كأنما نسي الجميع القصة.. إلا طفلاً صغيراً في العاشرة يبدو بجسده النحيل وثيابه المتسخة ووجهه الأكثر اتساخاً كأنما خرج من باطن الأرض في تلك اللحظة، خطا الطفل بخطوات وئيدة إلى المحصل ثم مد إليه يده بقطعة من النقود وقال (اقطع تذكرة...) والتفت إلى العجوز وأمسك بيده وهو يقول: (معلش أقعد يا عم.. وبفلوسك.. امسك التذكرة اعطه إياها).

وأطبق العجوز بكلتا يديه على يد الصبي الممدودة والدموع تنهمر من عينيه، حاول أن يشكره لكن الصوت ضاع مع ضجيج الترام الذي زاد سرعته.. وزاد إطباق العجوز على يد الصبي. والتحمت اليدان في تكوين واحد فريد، بل صارا كياناً واحداً حتى خيل لي أني رأيت نوراً يخرج من ذلك التكوين اللامتناسب الواقف عند طرف العربة..

زادت سرعة الترام.. زاد إشعاع البريق يخطف عيني.. اتجهت بنظري بعيداً لبرهة، اقترب الترام من محطته، هدأ سرعته، وقف...

العجوز يترك يد الطفل الممتدة.. يستدير ببطء، يبتعد خطوة.. خطوتين.. ثم يسقط على أرض عربة الترام..

كنت أعرف.. وأنا أسرع صوبه..

كنت أعرف قبل أن أصل..

أنه قد مات.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد