إن العلماء ورثة الأنبياء، مصابيح الدجى وأعلام الهدى، حفظ الله بهم الدين وأنار السبيل، تضرب لهم أكباد الإبل وتطوى لأجلهم وتثنى لعلمهم الركب، قال صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء) (رواه أحمد). وممن نفع الله بعلومهم في الأزمنة المعاصرة فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن جبرين -رحمه الله- الذي وافاه الأجل ظهر يوم الاثنين 20-7-1430هـ، فقد كان من بقية السلف الصالح، عَلَماً من أعلام الدين ورأساً من رؤوس العلم، نفع الله به البلاد والعباد عبر رحلة طويلة امتدت لأكثر من ثمان وسبعين عاماً قضاها -رحمه الله- في العلم والتعليم أخذاً ونشراً وبذلاً وعطاء، فقد كان هذا ديدنه، عازفاً عن الدنيا، زاهداً فيها لا يعرف البيع والشراء والصخب في الأسواق، بل حياته كلها منصرفة إلى العلم ونفع الإسلام والمسلمين. والشيخ - غفر الله له وأكرم نزله- ممن ترجم لنفسه ترجمة وافية كعادة كثير من العلماء، فقد ولد في عام 1352هـ في إحدى قرى القويعية وتلقى علومه الأولية في بلدته ثم لما قدم إليهم الشيخ عبدالعزيز بن محمد الشثري -رحمه الله- قرأ عليه كثيراً من أمهات الكتب ولازمه، وأتم في معهد (إمام الدعوة) المرحلة الثانوية ومُنِحَ الشهادة الجامعية في عام 1381هـ، كان ترتيبه على الدفعة: الأول، وكان الوالد -رحمه الله- زميله الثاني على الدفعة.
وأتم مرحلة الماجستير والدكتوراه، وكان في تلك الفترة يلازم العلماء ويدرس في حلقهم، ومن أشهرهم: سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، مفتي المملكة سابقاً، وكذلك: سماحة الشيخ عبدالله بن حميد، وغيرهما من أجلاء العلماء. ولقد بذل -رحمه الله- وقته وعلمه من خلال التدريس في معهد إمام الدعوة، ثم في كلية الشريعة، وانتقل بعد إلى رئاسة البحوث العلمية والإفتاء، حيث عمل عضواً في الإفتاء فنفع الله بعلمه كثيراً، هذا مع أن أبرز أعماله في الفترة التالية هي: إلقاء الدروس في المساجد، وله شروح على كتب كثيرة جداً، مع المحاضرات والخطب وغيرها.
وقد ذكر لي أخي الشيخ عبدالمحسن أنه رتب للشيخ عبدالله هذه الأيام دورة ستقام في المدينة -رحمه الله رحمة واسعة-.
والملاحظ في هذا أن الشيخ مع كبر سنه وتقدم عمره يحرص على الدورات الشرعية والدروس باذلاً وقته وجهده حضراً وسفراً في سبيل الله.
ولست أستقصي في هذه العجالة ما للشيخ من أعمال وجهود، ولكنك حسبك ما أعرفه شخصياً، فقد كان يقدم علينا في مكة في أشهر الصيف وذلك لمساعدة الوالد -رحمهما الله- في طبع المتبقي من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية وفهارسها، فأنست بقربه صغيراً لمدة ثلاثة أشهر كل عام، وكان يأخذ بيدي ويردد بعض الأبيات المعروفة وأكررها معه ويذكر لي دائماً أنه حضر عقيقتي، ويذكر من حضرها من المشايخ. وقد قام بجهد مشكور مع العم الشيخ سعد، وذلك لإعداد ومراجعة كتاب الجد -رحمه الله- (حاشية الروض المربع)، حيث استغرق العمل أربع سنوات كاملة تتم المراجعة والتصحيح فيها بعد صلاة الفجر حتى طباعة الحاشية. وللشيخ لطف وطيب معشر وحنو على الضعفاء والمساكين وأصحاب الحاجات يَعْرِف ذلك من زاره، وقد ذكر لي الشيخ محمد العريفي نقلاً عن أحد جيران الشيخ وهو من الموسرين، قال: سكن بجوارنا رجل ليس من أهل المنطقة وكنت أراه في المسجد ثم رق قلبي لحاله وسألته عن أموره، فقال: إنها طيبة، ثم أسر إلي أنه لا يحتاج شيئاً. ولمَّا كررا الطلب لمساعدته، قال: إذا مكثت أسبوعاً يأتي رجل قبل صلاة الفجر ويضع بعض الأرزاق عند الباب ولا أعرف من هو، قال التاجر: فأردت أن أعرف من هذا المحسن الذي سبقني، فإذا به الشيخ -رحمه الله- يأتي بسيارته ويضع الأرزاق ثم يذهب.
أسأل الله أن يغفر للشيخ وأن يُجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأن يخلفه في عقبه في الغابرين، وأن يخلف على أمة الإسلام خيراً.
a.malik.m.q@hotmail.com