سأرسم من الوفاء حروفا يجسده حجم رثاء، كتبتها بعباراتي قبل كلماتي، اشتياقا لك وتحية يرشح بها قلم محب. بعد أن رحلت على أثرها الأيام، وأتى الموعد على غير انتظار، وانقشعت غيوم الخبر، فعدت لحال الصحو أكثر صمودا.
لقد كنت يا ابن جبرين تمثل تواضع العقلاء، وطيبة البسطاء، وسماحة النبلاء. وكنت بحق مثيرا للجدل في عطائك، وعاصفا في بيان مرادك. لم يزدك علمك إلا تواضعا وإعجابا وعذوبات متراكمة. فلطالما أسديت المعروف والمبرات، فأكسبتك المحامد وطيب الشمائل.
أتذكر جيدا ذاك المساء حين دخلنا جناحه نتجمع لزيارته، فكانت حكاية حب تجمعنا به. وفي ذاكرتي وأنا أكتب مثل هذه الخاطرة، أن أخذ بيدي وكأنه يعرفني منذ سنين. فمر الحب كأنظف ما يراهن عليه الإنسان، وهبت ريح حياته مودعة برحيل جسده أجمل ما فيها من خير بعد أن دب المرض في جسده، لكنه لم يكن قادرا على النيل من معنوياته، وتسللت روحه دون استئذان، فطافت الذكرى بنا نسبل الدمع وتحرق القلب.
ومثلما نذكر ظباء الفلاه، وأناشيد الهوى، ومسالك الروح، وشعاب الوجدان، سنذكر رحلتك يا سماحة الشيخ راضية مرضية في بطون التاريخ، فلا يبقى من الدنيا إلا طيب الذكر، والناس شهود الله على ظهرها.
تلك هي حتمية الموت لمن أراد أن يتدبر ويتعظ، وسنجتمع للعزاء الذي لن يطول، فكلنا راحلون. ولن نبكي رحيل جسدك، بل سنبكي رحيل إرث خلفته علما وتواضعا وخلقا، وسنمسح دموع الذكريات بمناديل الشموخ. وستنطلق إلى السماء دعوات لا حصر لها، بأن يسبغ الله عليك رحمته وغفرانه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
drsasq@gmail.com