لولا اختلاف العلماء في النظر إلى بعض القضايا الفقهية لما ظهرت لدينا المذاهب الأربعة، التي أجمعت على الأصول ولتطابقت الفتاوى الشرعية، ولشق على المسلمين مسايرة التغير الكبير الذي طرأ على البشرية. أجمعت المذاهب الأربعة على الأصول، واختلفت في بعض الفروع، وهو اختلاف فيه رحمة وسعة وسماحة للمسلمين.
لا خلاف على بقاء الأصول كما هي دون تغيير أو تحديث، إلا أن حاجة الناس، وتطور البشرية حملت العلماء، ورثة الأنبياء، للتعامل مع بعض المسائل الفقهية وفق نظرة واقعية تأخذ في الحسبان الربط بين حاجة الناس والتيسير عليهم والتقيد بالأصول الشرعية التي لا يمكن الحياد عنها.
المسائل المالية المعاصرة من القضايا التي اختلف فيها الفقهاء المعاصرون، وهو اختلاف محمود، يرجع لاختلاف الناس في قدراتهم العقلية، وإمكانياتهم العلمية، وغير ذلك، إلا أن الخلاف يُفترض أن يكون ضمن نطاقه الشرعي، وبأسلوبه العلمي المعتبر، وألا يخرج على الإجماع.
تتنوع نقاط الاختلاف بتنوع المسائل المالية المعاصرة، وفي الغالب يكون مرد ذلك الاختلاف إلى فهم المعاملة المالية ما يُخِل في عملية تكييف الحكم. وهنا يظهر أسلوب الهيئات الشرعية في التعامل مع القضايا المالية المعاصرة باعتمادها على رأي خبراء في المنتجات المصرفية لفهم المعاملة المالية قبل إصدار الحكم الشرعي فيها.
التطور الكبير الذي طرأ على المعاملات المالية جعلها أكثر تعقيداً مما يُعتقد، ولعلنا لا نفشي سراً إذا ما قلنا أن كثيراً من العاملين في القطاع المصرفي غير ملمين بالمنتجات الاستثمارية الحديثة، خاصة وأن جميع القيود المالية باتت تتم وفق تقنيات عالية الدقة لا تسمح للقائمين بها معرفة مراحل تنفيذها، أو أسلوب تطبيقها بين المصارف والقطاعات المالية الأخرى.. بل إن تحليل المختصين لبعض المنتجات المصرفية المعقدة، والقيود الاستثمارية ربما تباينت بشكل لافت، ما يجعل أمر إسقاط الحكم الشرعي على بعض المنتجات المالية الحديثة لا يخلو من الصعوبة، لا بسبب قصور النظرة الشرعية، بل بسبب تداخل خطوط ومكونات بعض المنتجات المالية المعقدة، وضبابيتها، وارتباطها بمحاور مختلفة.
ومع كل ذلك نجح علماء الشريعة، بفضل الله وبركته، من وضع الخطوط العريضة للمصرفية الإسلامية الحديثة، وتمكن بعض العلماء من استنساخ غالبية المنتجات المالية التقليدية وفق الشروط الشرعية تيسيرا على المسلمين، ومواكبة لتغيرات الحياة ومتطلباتها الحديثة.
وأثبتت الأيام الماضية أن الاختلاف في بعض المسائل المالية قاد، بفضل الله وبركته، إلى الاتفاق. في المقابل، فإن صعوبة تحليل بعض المعاملات المالية وإرجاعها إلى أصلها الشرعي، وربطها بالأحكام الفقهية ربما أحدثت إشكالاً لدى بعض المختصين ما يحملهم على الاعتقاد بخطأ بعض الأحكام الشرعية ذات العلاقة بالمنتجات المالية الحديثة.
وكما أن تحليل بعض المعاملات المالية وإرجاعها إلى أصلها لاستنباط الحكم الشرعي لا يخلو من الصعوبة المتعلقة بطبيعتها المالية، فحكم العالم الشرعي ربما أشكل على بعض المختصين أيضاً، بل ربما تباين مع رؤية عالم آخر، وهو أمر طبيعي يحدث في المجامع الفقهية والهيئات الشرعية، إلا أن الثابت أن العلماء الربانيين لن يُقدموا على إصدار حكماً شرعيا في معاملة مالية ما لم يتثبتوا منها، متوكلين على الله، ومعتمدين على الكتاب والسنة، ومتجردين من كل ما قد يؤثر على حكمهم الشرعي. بل إن معظم فتاوى المسائل المالية المعاصرة باتت تصدر عن المجامع الفقهية، وهيئة كبار العلماء، والهيئات الشرعية المعتبرة لضمان الإجماع وفق العمل المؤسسي.
يعتقد البعض أن هيئات الرقابة الشرعية العاملة في المصارف السعودية ربما حابت المصارف في بعض المسائل المالية، والعياذ بالله، وهو أمر لا يمكن القبول به البتة، وننزه علماءنا الإجلاء عن مثل ذلك القول، ومن تابع عمل الهيئات الشرعية عن قرب يُكبر فيهم تجردهم، عدالتهم، حرصهم، ورعهم، وتحريهم الدقة في كل ما يصدر عنهم من فتاوى، وغزارة علمهم، نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله.
الخلاف البشري قائم ما بقيت الحياة، بل إن الصحابة، رضوان الله عليهم، اختلفوا في مسائل فقهية، وأوامر صريحة وبينهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
إجماع العلماء على مسألة مالية يُفترض أن يُخرجها من دائرة الخلاف، فإن ظهرت بعض الآراء الأخرى التي تستدعي المناقشة والبحث فيفترض أن تكون ضمن إطارها العلمي الشرعي، بعيدة عن الاتهامات الصريحة.
من مصلحة المسلمين أن يكون هناك بحث موسع ومتخصص في كل مسألة اختلف فيها، للوصول إلى الحقيقة المجردة. قد تكون هناك بعض الآراء الشاذة غير المعتبرة، إلا أن الحكمة تفرض مناقشتها وتفنيدها وإقناع معتقديها بالدليل الشرعي، بعيداً عن النزاع الفكري الذي لا يقود إلا إلى الفرقة.
أعتقد أن المؤتمرات الإسلامية والمجامع الفقهية، والاجتماعات المغلقة بين العلماء، باختلاف آرائهم، هي الأماكن المناسبة لطرح مثل تلك القضايا. الحوار العلمي هو الأسلوب الأمثل لبحث الخلاف المقبول في المسائل الفقهية المالية بغية الوصول إلى اتفاق بين العلماء، فإن حدث وجب الالتزام به.
ما أحوج الجميع للتأسي بسيرة السلف الصالح في اختلافهم الفقهي، وتقديرهم أخوانهم العلماء وإنزالهم المكانة التي يستحقون، وإن اختلفوا معهم، فالفرقة والتنازع لا يقودان إلا إلى الفشل، قال تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ}.
نسأل الله أن يجمع المسلمين على الخير وأن يدلهم إلى الحق وأن يوفق علماء الأمة إلى ما فيه الخير والسداد.
f.albuainain@hotmail.com