نحن نئن ونعاني الأمرّين من ثقافة التشدّد، وكراهية الآخر، وتسفيه كل الدعوات التي تدعو إلى (التعايش) مع الآخر رغم الاختلاف. هذه حقيقة لا يتخطاها ولا يتجاوزها إلا مكابر أو مغالط. وفي تاريخ المدينة زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صورٌ متعددة تثبت أن (التعايش) مع الآخر كان نمطاً اجتماعياً سائداً آنذاك؛ فقد كان المسلمون واليهود يتعاملون، ويتزاورون، ويعيشون جنباً إلى جنب كمواطنين؛ ويروى أن الرسول انتقل إلى الرفيق الأعلى ودرعه مرهونة عند يهودي.
وثقافة التعايش مع الآخر، والتعامل معه، لا تتجلّى فقط في التعامل التجاري، أو حتى في العيش في رقعة جغرافية واحدة، وإنما أخذت في الإسلام بُعداً أهم وأعمق من التعامل التجاري، أو الزمالة في العمل، أو العيش في رقعة جغرافية مشتركة؛ فقد أباح الإسلام للمسلمين الزواج من الكتابية، واتخاذها زوجة يَسكِنُ إليها المسلم، وتربي أطفاله، وتقوم على تنشئتهم؛ وهذا يعني أن أسرة الزوجة الكتابية سيجمعها مع المسلم (الزوج) أواصر النسب، التي هي من أشد الروابط الإنسانية (حميميّة) بين الأفراد؛ ليصبح أخو الكتابية خالَ أبنائه، وأختها خالتهم، وأمها جدتهم، وأبوها جدهم؛ وهذا أدق شاهد على أن هذا الدين القيّم دين تعايش وسلام وبعد عن الكراهية والبغضاء التي يبيعها إلى البسطاء والسذج المتشددون وكذلك الإرهابيون.
وعندما انتقل المسلمون للعيش في البلاد المفتوحة، كانت ثقافة (التعايش) مع أصحاب الملل الأخرى، هي الأس الذي جذبَ غير المسلمين إلى الإسلام، وساعد على انتشاره؛ بل كان (التعايش) في الأندلس - مثلاً - (ظاهرة) لفتت نظرَ كل الدارسين لتاريخ المسلمين عندما حكموا ذلك الجزء من العالم؛ فقد وجد دارسو تاريخ المسلمين هناك أن (التعايش) ثقافة إسلامية متأصّلة في نفوس الفاتحين، وأن العلاقة بين الحاكم والمحكومين كانت تقوم على العدل، بغض النظر عن الاختلافات والتباينات الدينية أو المذهبية.
معنى ذلك أن ثقافة (الكراهية) ثقافة طارئة، أو بمعنى أدق (مُحدثة)، تتعارض مع تاريخ الإسلام والمسلمين منذ المدينة؛ فبركها (المتشددون)، ثم غرسوها في أذهان الشباب، فوجدت منظمة (القاعدة) بسببها، وبسبب تغاضينا عنها، وعن خطورتها، مرتعاً ثقافياً خصباً، استطاعت أن توظّف منتجاته لتفريخ (دمويين) تربوا منذ الصغر على أن علاقتنا مع الآخر ذات اتجاه واحد هو الكره والذبح والتفجير والتدمير. تهميشنا لمفاهيم (التعايش) مع الآخر، وإحلال ثقافة الكراهية والبغضاء محلها، هو بمثابة حجر الزاوية الذي تقوم عليه (ثقافة الإرهاب)، مهما حاول المتشددون أن يتهربوا أو أن يبرروا.
يقول الدكتور سلمان العودة في هذا الاتجاه: (إن معنى التعايش هو قبول التصالح الدنيوي والوجود والجوار في الاتفاق على جملة من الأخلاق الإنسانية التي تتيح فرصة لتبادل الحوار والإقناع)؛ ويُضيف: (ومن الافتئات على مقاصد الشريعة ودعوة الإسلام أن (تصطفي) مجموعة نفسها تحت أي مسمى، (تحتكر الصواب)، والرؤية الصائبة المطلقة، وتعتبر الخارج عن سلطتها مفتوناً حلال الدم أحياناً، معلنة عن بيعة ملزمة عندها هي مفرق الحق من الباطل بين الناس، وهذا أنموذج هو في نفسه (فتنة)، ولا عهد لنا به في الشريعة الإسلامية التي حقنت دماء من لا يؤمنون بها أصلاً، من يهود ونصارى وغيرهم، بموجب عقد واتفاق على مر عصور التاريخ).
هذا بالمختصر المفيد مفهوم التعايش رغم الاختلاف في الإسلام. إلى اللقاء.