Al Jazirah NewsPaper Sunday  02/08/2009 G Issue 13457
الأحد 11 شعبان 1430   العدد  13457

تجربة فتى كان في طريقه إلى التطرف 8-8
الانقلاب على فكر الجماعة!
د. محمد عبد الله العوين

 

تلقفت الجماعة ذلك الفتى القروي الريفي المعبأ بأثقال من المثاليات والأحلام الرومانسية الشفيفة، والمعذب وجدانياً بصراعات متداخلة بين ذاته الجوانية الساكنة المستترة وذاته الخارجية الفوارة المعلنة، التي تشعر بغربتها عن محيطها الاجتماعي، وأن ما حولها يكاد يكون كله غير إسلامي، وغير صالح، ولابد يوماً أن يعود إلى حظيرة الإسلام!!

وحين غادر الفتى قريته وحيداً فريداً تائهاً خالي الوفاض إلا من دعوات أمه وهمهمات أبيه الحانية لم يجد له ملاذاً سوى الجماعة التي ذللت له الطريق إلى الجامعة، وبذلت من الجهد لتحقيق غاياته ما شعر معه بشيء كبير من الامتنان لم يجد ما يعبر عنه سوى بمزيد من الاندماج مع مفردات العمل اليومي الحركي، وحضور كل اللقاءات والانطلاق معها في الرحلات الجماعية.

كان الرياض - آنذاك - منتصف التسعينيات الهجرية من العام الماضي تكاد تتلخص في الوسط فحسب، فلم تتوسع المدينة بعد، وكان السكن الجامعي يقع في آخر شارع الوزير من الجنوب بالقرب من مركز الخدمة الاجتماعية، والحق أن الفتى وجد نفسه في عالم جديد في كل شيء، فالعمارة مبنية بالرخام، وسلالمها خشبية أنيقة، وغرفها في غاية الجمال والترتيب، ولأن المسافة بين هذا السكن ومقر جماعة التبليغ في (سكيرينة) قصيرة جداً رأى الفتى أن يجدد صلته بها، لمعرفة ماذا فعل الله بكثيرين من أعضائها ممن لا زال بعض أسمائهم عالقاً بذاكرته..!

في سكيرينة

شده الحنين إلى صوفية جماعة التبليغ على الرغم من أن وعيه الفكري قد تجاوز محيط تفكيرهم، بيد أنه يشعر أحياناً أن لديه من القدرات العملية الآن والوعي ما يمكنه من تغيير كثير من وجوه التفكير الاستسلامية، ومن قناعات الأفراد التبليغيين بأن الإسلام والدعوة تنحصر في العبادات، وبتخليص المسلم من حب الدنيا، ومن الانصياع للشهوات، والإقبال على الله تعالى بالتفرغ للعبادة، وتطهير النفس، والإخلاص للعمل التبليغي والانقياد إلى ما تعزم عليه من رحلات دعوية في الداخل والخارج.

كانت هذه الأفكار تعشش في رأسه وهو يمد خطواته - حيث لا سيارة لديه - ماشياً بعزيمة على رصيف الجزء الجنوبي الأخير من شارع الوزير ثم منعطفاً يميناً إلى شارع الأعشى ثم يساراً إلى مسجد (سكيرينة).

دخل المسجد وصلى المغرب مع جماعة التبليغ، ثم أخذ مكانه في إحدى الحلقات، لم يلفت منظره أحداً ممن حوله، فزيه لم يكن بعيداً عن زيهم، فلم يلبس العقال بعد، ووجهه الطفولي القروي البكر كان يحتفظ بلحية صغيرة مهذبة مقصقصة تقبع تحت شفته السفلى، وثوبه لا يتجاوز كعبيه، فكل ما فيه يؤهله لأن يكون واحداً من الحاضرين المتداخلين الذين يلتفون في حلق متجاورة، كل حلقة تنصت إلى شيخ متحدث، وفي الزوايا من قريب أو بعيد يتكئ آخرون مستندين على الأعمدة ولا تكاد وجوههم تبدو وكأنهم يعيشون بمفردهم في حالات روحانية خاصة.

تأمل الفتى أعضاء حلقته فوجد فيهم السوداني واليمني والباكستاني والهندي والسعودي بطبيعة الحال، ووجد أن مستوياتهم التعليمية تكاد تكون متواضعة جداً، وأن شيخ الحلقة يبدأ حديثه بالتعارف، ثم يدخل في حديث طويل لا يقطعه إلا تأمين أعضاء الحلقة بتمتمة غير مسموعة بالشفاه، وبإيماءة خاشعة بالرأس علامة الموافقة على كل ما قال واستأنف المتحدثون أحاديثهم بعد صلاة العشاء عن التطهر الذاتي، وضرورة نأي المسلم بنفسه عن المجتمع الفاسد، وأن انتساب أي من الحاضرين إلى التبليغ يعني أنه ينقطع عن مفردات الفساد اليومية ويهاجر بنفسه وبروحه مع الجماعة أينما حلت أو رحلت، لأنها - كما يرى المتحدثون - المجتمع البديل الصالح، والبيئة الطيبة التي تضمن للعضو التبليغي السلامة في دينه، والقيام بواجب الدعوة من خلال الرحلات الجماعية!

كانت ثمة رسائل مطبوعة في كتيبات صغيرة توزع على الحاضرين في الحلقات، ولحظ الفتى وهو يقلب إحداها أنها مطبوعة بدار السلاسل في الكويت على الرغم من أن من كتب هذه الرسائل أو تلك من أبناء البلاد، ووجد أن هذه الرسائل تختلف في لغتها الثورية الهادرة عن إيقاع خطاب التبليغيين في حلقاتهم، ثم وجد أوراداً مطبوعة توزع أيضاً على الحاضرين، وأن كل واحد في الحلقات لابد أن يقرأها قبل أن تنفض الحلقة، وكان من مفردات جلسة ما بعد صلاة العشاء قراءة في كتاب (حياة الصحابة) لمؤلفه محمد يوسف الكاندهلوي، ثم قراءة شيء من (رياض الصالحين) ثم شيء من كتب الزهد والرقائق.

بَيْدَ أن الفتى توقف في هذا اللقاء المطول مع التبليغيين بعد صلاة العشاء، وقبل أن يخلد كثيرون منهم إلى النوم في المسجد، لأن فرشهم مربوطة - كما شاهدها - وموضوعة في زوايا بعيدة، فهم يأكلون ويشربون وينامون في المساجد رغبة في الانقطاع عن الحياة خارجها، وتأكيداً لمبدأ الزهد والتقشف والورع، ونوعاً من أنواع مظاهر الإخلاص لمبادئ الفكر التبليغي البسيط في ظاهره، والعميق في مخبره، بصهر عضو الجماعة في نظامها الأسري وتفاصيلها اليومية الدقيقة.

توقف الفتى ممتنعاً عن الموافقة على مسألتين، الأولى: البيعة!! فقد طلب المتحدث بعد أن أكد معاني الإخلاص والتطهر والانقطاع والتوبة أن يبايعه أعضاء الحلقة! وهكذا فعلت كل الحلقات! فامتنع الفتى بجرأة وبشجاعة، لأنه لم يعلم على ماذا يبايع؟ فأنكر عليه المتحدث سؤاله لأن المتحلقين جميعهم في حلقته على جنسياتهم المختلفة بايعوه، وحين هم الفتى بالوقوف قال له: بايع يا أخي على التوبة! ثم سأله أن يسجل اسمه مع من سجل ليكون عضواً دائماً في حلقة الشيخ، فامتنع الفتى، لأنه استحضر موقف والده قبل خمس سنوات من الآن حين نصحه بألا يسجل اسمه، ولا يرحل معهم إلى حيث يرحلون، وألا يطيل الجلوس في حلقاتهم، ولكنها نفسه القلقة الباحثة المتلهفة إلى المعرفة وإلى تطوير آليات العمل الإسلامي، والإفادة من كل الجماعات، على الرغم من أن إخوانه كانوا لا يَنوْن ولا يفترون من انتقاد التبليغيين والتعريض بهم وأحياناً السخرية من سذاجاتهم وسطحيتهم!

نهض الفتى من الحلقة معتذراً بأنه سيعود وكان الورد وهو الفقرة الأخيرة في الجلسة المسائية سيُتلى والتفت يمنة ويسرة وإذا بأعضاء الجماعة يفترشون فرشاً متواضعة في أماكن متناثرة من المسجد، وكانت الساعة لم تصل الحادية عشرة بعد. ولفت نظره شيء غير قليل من الدروشة وتردي المظاهر الخارجية مع تواضع الفكر وتجنب نقد الواقع. وكأنه وهو يمد خطوته الأولى خارجاً من مسجد (سكيرينة) الطيني الذي لا يكاد يختلف عن بيوت الطين حوله وقليل من البيوت المبنية من الأسمنت المسلح الواقعة على الشارع الرئيس يشعر أنه يودع التبليغيين الوداع الأخير، ويدرك أنه تجاوزهم وأن جماعة الإخوان التي ينتمي إليها تملك تصورات سياسية عميقة، وتحلل النصوص وتفعلها وتجعلها مشاريع لعمل حركي تغييري سيقلب المجتمع وسيعمل على توجيهه الوجهة الصحيحة التي تعتقدها جماعته!

هؤلاء دراويش فعلاً! قالها لنفسه وهو يقطع شارع الأعشى، ثم لِمَ البيعة؟ ولم الانتماء بالأسماء؟ ولم الترحل؟ وهل سيواصل دراسته الجامعية لو منح نفسه للتبليغيين؟ ولم الهند وباكستان؟ التي ستكون إحدى المزارات القادمة لهذه الجماعة كما سمع ممن حوله؟! شعر أنه وهو يتجه مشياً على قدميه عائداً إلى سكنه الجامعي بشارع الوزير يعلن انقطاعه التام عن سكيرينة ويؤكد إصراره على أن إخوانه هم أمل الأمة وخلاصها القادم.

في دار العلم

قال له صديقه (عبد الرحمن) وهما يهامان بالذهاب إلى (بوفيه) كلية اللغة العربية الواقع بين الكليتين اللغة والشريعة في جزء من الحديقة الصغيرة التي تتوسط المبنيين اللذين يبدوان وكأنهما على اختلاف كبير بين المنتسبين إليهما في كثير من التوجهات: ما رأيك أيها الفتى في حضور حفلة (دار العلم) التي ستتم بعد قليل في التاسعة والنصف من صبيحة هذا اليوم الأربعاء؟! قال الفتى: وما دار العلم هذه؟ ومن هم أصحابها؟ أجابه عبد الرحمن بأنها دار تضم نخبة من الشباب المتحمس وتنظمها جماعة الإخوان المسلمين ومن الضروري حضور بعض ندواتها! لم يكن يعلم عبد الرحمن أن صديقه الفتى يكاد يغرق إلى أذنيه في بحر الإخوان اللجي وأنه يتنفس أفكار الجماعة ويتحدث برؤاها ويقرأ كتبها ويحرص على اقتناء كل جديد يكتبه مفكروها.

خرجا من الكلية ومشيا بمحاذاة مسجد العيد، ثم دلفا يميناً إلى شارع القري ومنه يساراً إلى زقاق صغير مقابل لحديقة دخنة الصغيرة أو دوارها المشجر على الأصح، ثم رأيا أمامهما شارعاً طويلاً يمتد في الحارة وعلى جانبيه مبان طينية مرصوصة بانتظام شديد، والماء يتسرب من هذه المباني إلى الشارع الذي لا يسمح إلا لمرور سيارة واحدة، ووجدا نفراً غير قليل من الناس عند أحد أبواب هذه البيوت الطينية، وحين رفع رأسه إلى أعلى الباب قرأ لوحة بيضاء كبيرة وبدا عليها شيء من القدم وقد خط عليها بلون أزرق كبير: دار العلم، ثم تأسست عام 1385هـ على ما يتذكر إن لم تخنه ذاكرته، دخل مع صديقه عبد الرحمن ووجدا فناء هذا المنزل الطيني المطلي بالأسمنت مسقوفاً وواسعاً وقد صفت مقاعد في صفوف منتظمة تشبه مقاعد الطلاب ونصبت في مقدمة الفناء منصة عالية وكأنها خشبة مسرح للخطابة، وقد بدأ المتكلمون وصوت المايكرفون يجلجل في مصابيح وفناء الدار، وتقطع هدير المايكرفون وقفات عالية الصوت من الحاضرين مرددين: الله أكبر.. الله أكبر!

أخذت الفتى الحماسة والنشوة حين علت التكبيرات وملأت فضاء المكان ووجد عدداً غير قليل من إخوانه حين تأمل الحضور منصتين متفاعلين مع المتحدث الذي كان ساخطاً أشد السخط على ما يجري في المجتمع - كما يرى - من تحولات خطيرة تنذر بشرور قادمة! كان المتحدث ملتحياً ويلبس نظارة بيضاء مقعرة ويطلق نقدات ساخرة على ما تكتبه الصحف، وما يذيعه التلفزيون، وقد يعرض هذا المتحدث بمسؤول بتلميح دون تصريح متسائلاً عن وعود بالتطوير أو الإصلاح، ومتشكياً من قضايا خدمية كثيرة ثم بدأ عرض مسرحية إسلامية تتحدث عن اضطهاد العلماء والدعاة متمثلة في قضية أحمد بن حنبل، ثم قصيدة شعرية هادرة تتحدث عن أوضاع الأمة الإسلامية السيئة في كل مكان من كشمير إلى فلسطين، إلى تركستان إلى تركيا، وغيرها من بلدان العالم الإسلامي ثم بدأ توزيع جوائز على المشاركين وهي مجموعة كتب إسلامية، لمح منها: الظلال لسيد قطب، ومذكرات الدعوة والداعية لحسن البنا، والحجاب لأبي الأعلى المودودي، وغيرها.

ثم تطوع أحد الحضور وقام بتوزيع كتاب: المستقبل لهذا الدين لسيد قطب على الحضور. أخذ الفتى نسخة على الرغم من أنه يكاد يحفظ كل سطر فيه، ويستظهر أفكاره كما كان يستظهر ويحفظ (المعالم) إلا أنه ود أن يهديه لمن ينتفع به من الطلاب.

وقبل أن يعلن مقدم الحفل الشهير نهاية هذا اللقاء نوه إلى موعد الحفل الشهري القادم ليتواصى الحاضرون على معاودة الحضور والتفاعل مع فقرات الحفل المتنوعة. خرج الفتى بين النشوة وشيء من مشاعر الاغتمام الذي لا يعلم سببه، إلا أنه شد على يد صديقه عبد الرحمن وهما عائدان إلى الكلية بأن عليه أن يلتحق بركب الجماعة! فسأله: يبدو أنك تعرف كثيرين منهم لأنني رأيتك تعانق ذاك وتصافح هذا وتتبادل الحديث مع ثالث.. أليس كذلك؟! قال الفتى: نعم: ليست معرفة فقط، بل اندماج كلي ووعي عميق بمعطيات الحركة الفكرية، وبطروحاتها، وبأهدافها البعيدة، ثم أخذ يشرح لصديقه وهما في طريقهما عائدين إلى درسهما الجامعي المدى البعيد الذي قطعه مع الجماعة حتى وصل إلى هذه القناعة العميقة التي لا تتزحزح!

ففاجأه صديقه غير المتحمس للجماعة بسؤال خطير أخذ يدوي في أذنيه أشهراً طويلة: ومن وراء الجماعة؟ وإلى ماذا ستصل؟ وهل تعلم أن لها أجندة سياسية خفية؟!

استعاد في هذه اللحظة عبارات أحد القياديين النافذين قبل ثلاث سنوات وهو يمشي معه ولا ثالث لهما في أحد أيام الرياض الربيعية في وادي (السوط): أنت مهيأ لدور مهم، وتنتظرك مسؤوليات كبيرة فكن مستعداً لها!!

دور مهم، ومسؤوليات خفية لم تتبين بعد؟ وأجندة لا يعلم الفتى ما هي سوى البناء، البناء الإسلامي من القاعدة، وتغيير الواقع بتخليق جيل جديد قادر على إدارة دفة الحياة وفق التصور الإسلامي هذا ما وصل إليه من أفكار الجماعة، وقد قرأ وجرب ووجد أن الفكر الإخواني يتميز بالمعاصرة، وبالحيوية، وبالقدرة على التكيف، وأنه يتجاوز كثيرين من مفكري الاتجاهات السلفية أو التبليغية، أو غيرها. وأنه من يقف بشجاعة وبصمود وبوعي أمام المنحرفين من ذوي الأفكار التغريبية أو الإلحادية كالشيوعيين مثلاً، أو غيرهم من القوميين أو البعثيين، وسواهم.

أخذت الأفكار تذهب بالفتى يمنة ويسرة، ودخل قاعة المحاضرات وأنصت إلى الدكتور علي الجندي يتحدث عن قصيدة (امرئ القيس):

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل..!

الشعر الجاهلي، والطرد، والخمر، وحبيبة امرئ القيس، ماذا يفرق جاهلية امرئ القيس عن جاهلية هذا القرن كما يقول قطب؟! هل نحن في جاهلية؟! وهل لكل زمن جاهليته؟ وهل الجاهلية هنا عقدية أم جاهلية علم وتنوير؟ وإذا كنا كما نقرأ - سأل الفتى نفسه - في جاهلية حسب رؤية الفكر الإخواني فالجماعة فحسب ومن يؤمن بطروحاتها في نور وبصيرة وغيرهم جاهليون! أليس هذا منطلقاً من منطلقات التكفير؟ ما الذي جاء بك يا صديقي عبد الرحمن هذا الصباح لتثير هذه التساؤلات العنيفة المزعجة؟ لقد كنت مطمئناً كل الاطمئنان مندفعاً كل الاندفاع، فها أنت وحتى بعد نشوة الصباح الباكر في دار العلم تمحو بتساؤلاتك الصريحة الشفافة والشجاعة كل ما داخلني من انتشاء وصيحات تكبير، وما هو تحت يدي الآن من كتب ورسائل للجماعة؟ هكذا ذهب الفتى في خياله البعيد خلف أفكار تساقطت عليهما في طريق عودتهما إلى الكلية، ونسي الفتى امرئ القيس وأستاذه الجندي والقاعة ومن فيها، وبدا عليه الاضطراب وتساءل: هل يعتذر عن المخيم الذي تنوي جماعة النشاط في الكلية الانطلاق إليه اليوم عصراً خارج الرياض؟

مخيم جماعة النشاط

امتلأت الحافلة بالطلاب من كل جنس ولون ولغة، وأغلقت بابها ونوافذها ثم تحدث أحدهم وهو مصري الجنسية بميكرفون يدوي عن الشباب ودورهم في مستقبل الأمة، وأنهم الرجاء الخير القادم، وأن الأخطار محدقة، والمؤامرات تحاك، وأن المجتمع والعالم يتخبط في دياجير الجاهلية والانحراف، ثم ختم حديثه بترداد هذا النشيد الذي سينطلق بعد قليل من مسجل الحافلة:

أخي جاوز الظالمون المدى

فحق الجهاد وحق الفدا

أنتركهم يغصبون العروبة

مجد الأبوة والسؤددا

وليسوا بغير صليل السيوف

يجيبون صوتاً لنا أو صدى

فجرد حسامك من غمده

فليس له بعد أن يغمدا

ضجت الحافلة بالنشيط الجماعي، وتلتها أناشيد أخرى قصيرة، وانطلق صوت الخطباء في الفضاء الفسيح البعيد عن المدينة هادراً محرضاً داعياً إلى انقلاب إسلامي حقيقي على الواقع المر الذي تعيشه الأمة!

في طريق العودة آمن الفتى بأنه يسير في طريق محفوف بالمخاطر وأن هذا الطريق الذي يدفعه كل يوم إلى مرحلة متقدمة من العمل الحركي قد يصل به إلى سبيل لا رجعة منه، فالتغيير لابد منه ولكن بعيداً بعيداً عن الجماعة بمفهومها الحزبي وبأجندتها الخفية، وكان على الفتى أن يبحث عن ذاته من جديد في رؤية فكرية مستقلة، وبروح أخرى فردية تؤمن بقيم خيرة وبوطن ناهض وأمة واعدة، لكن دون انسياق حماسي ملتهب ولا ضغوط من جماعة لا تؤمن إلا بأنها وحدها تملك الحقيقة والوعي والفكر والقيادة، فكيف انقلب الفتى على نفسه؟ وما مظاهر ذلك الانقلاب الفكري العنيف؟ تلك قصة أخرى.

عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام

كلية اللغة العربية

ksa-7007@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد